نُذَكِّر دائما بأن هذه السلسة تأتي في سياق دعمنا لفخامة رئيس الجمهورية في حربه المعلنة على الفساد و المفسدين، و المساهمة في خلق رأي وطني عريض متضامن ضد لوبي الإفساد، و أننا متقيدين بما يتطلبه الموقف من إحترام أخلاقيات المهنة و المحافظة على سر الوظيفة.
... نتابع في مقال محاربة الفساد ( القطاع العقاري نموذجا )، وهذا هو المحور الثالث من الدراسة.
[ ] تقاس نجاحات و إخفاقات القطاع العقاري بأمرين، جودة و سرعة تقديم الخدمة للمواطن، و العائد على المزانية العمومية، و المتتبع للشأن العقاري يدرك مدى الإخفاق الكبير في تحقيق الهدفين المذكورين، و تعود أسباب فشل الدولة الموريتانية الحديثة في وضع سياسة عقارية ناجحة، تلبي حاجيات المواطن بأقل تضحية يقدمها من ماله و وقته، و تعود على الخزينة العامة بأموال ضخمة، إلى مجموعة من العوامل تضافرت فيما بينها، و عملت على إفشال هذا القطاع الحيوي، و إتساع طبقة المتحايلين عليه، و من أهم هذه العوامل:
١- القطاع العقاري في ذيل إهتمامات الحكومة:
[ ] لم يحظى القطاع العقاري يوما بالمكانة التي يستحقها، و تم إختزاله في إدارة مركزية تسمى إدارة العقارات تابعة للإدارة العامة للعقارات وأملاك الدولة بوزارة المالية، لا يوجد لها مكاتب خارج نواكشوط و نواذيبو، وهي المسؤولة عن المجال العقاري على عموم التراب الوطني( إعداد وثائق الملكية العقارية المؤقت و النهائية )، و إقتصر دور الجهاز التنفيذي في المجال العقاري، على تسيير متطلبات الساعة من طلبات الحكومة، و بعض التوزيعات التي يحظى بها النواب و الأساتذة الجامعيين و القضاة، و بعض النافذين، أو ردت فعل على ما يتسرب من سرقات ورشاوي من وقت لآخر، و دائما ما تكون ضعيفة من قبيل إقالة مسؤول أو فتح تحقيق ينتهي بعد أيام.
عدم إدراج المجال العقاري في أولويات الحكومة، و إختصاره في إدارة مركزية محدودة الموارد البشرية و المادية، و لا وجود لها في جميع ولايات الوطن بإستثناء ولاية نواكشوط الغربية و ولاية داخلت نواذيبو ( ما تسمعون من ممثلي إدارة العقارت في باقي مقاطعات الوطن، إنما هم عمال لوزارة التجهيز أو وزارة الإسكان )، يعد بحق سببا رئيسيا في خلق واقع التردي و شبه الإنهيار الذي يعيشه هذا القطاع الحيوي؛
[ ] ٢- نقص الكادر البشري و الدعم المادي:
من أسباب فشل تسيير الحكومة للمجال العقاري، النقص الكبير في الكادر الإداري و الفني القادر على الإطلاع بمهامه، و الوضعية المزرية التي يعمل فيها عمال إدارة العقارت، فهم في السلم السفلي ضمن تراتبية أطر و عمال وزارة المالية، و ما يحصلون عليه من علوات لا يمثل ربع ما يحصل عليه نظراؤهم في إدارة الضرائب أو في إدارة المزانية أو الخزينة ... مما جعل موظفي هذا القطاع في سباق مع الزمن من أجل تحويلهم عن هذا المرفق العمومي إلى إحدى إدارات المالية الأخرى التي تمتاز بعلاوات أكثر، و من المفارقة أن هذا الطاقم الذي يسير المجال العقاري على عموم التراب الوطني، لم يستفيد من توزيعات القطع الأرضية منذو أمد بعيد.
هذا الواقع خلق بيئة مناسبة للرشوة و الفساد، و ساهم إلى حد كبير في زيادة نفوذ المتحايلين؛
[ ] ٣- غياب آلية واضحة لمنح الأراضي:
رغم وجود ترسانة من القوانين، توضح الطرق التي تمنح بها الأراضي، غير أنها و إنطلاقا من الواقع تم توقيف العمل بها على تنفيذ طلبات الجهاز التنفيذي من المجال العقاري، و بعض الْمَنْحِ للأفراد، فيما ظلت طلبات المواطنين و المستثمرين الأجانب، مهما كانت طبيعتها ( طلب قطع أرضية لغرض السكن، أو الصناعة أو السياحة أو التجارة...)، حبيسة المكاتب الإدارية، دون الرد عليها في غالب الأحيان.
غياب العمل بسياسة واضحة، تمكن الدولة و كل مواطن أو مستثمر أجنبي من حصوله على طلبه من المجال العقاري، بطريقة شفافة و سريعة، ساهمت في تنامي دور السماسرة والمتحايلين لتمكين أصحاب الطلبات من الحصول على ما يريدون مقابل مبالغ ضخمة من جهة ومن جهة أخرى كانت سببا رئيسيا في فقدان الجهاز الحكومي لدوره في منح القطع الأرضية، مقابل تنامي أساليب الإحتيال على المجال الحضري و الريفي، و وضع الدولة أمام الأمر الواقع ( إنتشار ظاهرة الكزرة و الإقتطاعات الريفية داخل المجال الحضري، و إنتشار ظاهرة الحيازة التقيدية للأراضي الزراعية )؛
[ ] ٤- غياب الدور القضائي الفعال:
إن تعاطي الجهاز القضائي مع ظاهرة التحايل على المجال العقاري، كان ضعيفا لدرجة أنه أصبح عاملا مشجعا على إمتهان التزوير و التحايل و أخذ الرشوة، لأن هذه الفئة من المنحرفين لا تخشى عقوبة رادعة، و إنما تنتظر العائد من عملها فقط.
هذه العوامل تضافرت فيما بينها، فكانت سببا لتنامي ظاهرة الإحتيال و ضياع ثروة هائلة من الممكن أن تساهم في تمويل التنمية و ضياع حقوق المواطن و ماله و وقته.
لكن يبقى الأمل موجود بأن هذا القطاع الهام، يمكن أن يتم إصلاحه و قيامه بالدور الحيوي المنوط به، و ذلك من خلال إستراتجية واضحة و تعبئة الإمكانات الضرورية لتنفيذ هذه الإستراتجية.
المحور الأخير من هذه السلسة سيتعرض لبعض الأفكار التي من خلالها يمكن بناء جهاز إداري و فني قادر على الإطلاع بمهامه بصورة تمكن الدولة من إعادة سيطرتها على مجالها العقاري و تنظيمه بشكل يعيد ثقة المواطنين و شركاء التنمية فيه، و من جهة أخرى يمكن من إسترجاع الأموال الضخمة لصالح الخزينة العامة.