مما لا يجادل فيه إنسان أن فئات عدة من هذا الشعب تعرضت لكثير من الظلم, لفترات طويلة من تاريخ هذه البلاد, وأعظم ما في هذا الظلم أن جميع الفئات رغم التباين بينها والاختلاف تتفق عليه.
وهذا الظلم أنواع, ولذلك لا بد أنه يتفاوت, وأن بعض الفئات نالها منه أكثر مما نال الفئات الأخرى؛ ولا شك أن فئة الحراطين نالها أعظم أنواع هذا الظلم, لأن سلب الإنسان حريته من أعظم المناكر, كما قال عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه –: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
وهذا الظلم الذي نال هذه الشريحة مازال مستمرا حتى الآن وإن في مظاهر أخرى, لعل أهمها هو تجاهل وضعية هذه الشريحة من قبل السلطة والنخب.
فكثير من هؤلاء يكتفي بالقول إن الفرص, من تعليم وغيره, مفتوحة أمام جميع فئات الشعب بالتساوي وهو نوع من دس الرؤوس في الرمال يتجاهل الوضعية التي توجد فيها هذه الشريحة, من انتشار للجهل يحرم أفرادها من أي وظيفة, وكذلك من فقر مدقع, ناتج طبعا عن سنوات طويلة من منع أفرادها من حق التملك, يجعلها غير قادرة على إرسال أبنائها للتعليم - نظرا لحاجتها لعملهم – ويحرمها أي هذا الفقر من الدخول في الدورة الاقتصادية.
وفي موازاة هذا التجاهل المشين والذي يمثل خذلانا من المسلم لأخيه المسلم الذي حذر منه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حيث قال: "المسلم أخو المسلم, لا يخذله ولا يظلمه", في مقابل هذا الخذلان يوجد ناس آخرون يدعون الدفاع عن هذه الشريحة – وأنا هنا لا أتهم أحدا في نيته – لا هم لهم سوى اتهام الدعاة, وحزب تواصل ورموزه مثل الشيخ الددو تحديدا, بما هم براء منه, بل حتى مهاجمة الإسلام ذاته, كما ورد في البيان الذي ظهر قبل أيام.
وهذا قطعا ليس من نصرة هذه القضية, فالذين يدافعون عن الاستعباد, معروفون ولم يكونوا يوما من تواصل ولا الحركة الإسلامية قبل ذلك, بل كانوا دائما ألد أعدائها, وكانوا يحرضون الأنظمة ضدها, والنظام الحالي خير مثال على ذلك, ثم إن هذا الحزب والحركة من قبله, في طرحهم وفي تطبيقهم, وما شهدنا إلا بما علمنا, لا يمكن لأي منصف أن يتهمهم بالعنصرية, لأن من يدعو إلى الإسلام بكل تفاصيله, وإلى تطبيقه في كل دقائق الحياة وتفاصيلها, وهو دين العدل والحرية والكرامة, دين إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد, لا يمكن أن يتهم بالعنصرية, خصوصا وأن تاريخه في تطبيق فكرته تاريخ ناصع, يشهد أن كل من حاد عن هذه المبادئ سواء لأجل الولاء للقبيلة أو لأجل المطامع المادية, صار خارج هذه الحركة مهما كان مركزه السابق فيها, فهذا يثبت أن هؤلاء هم جنود فكرة وليسوا ممن يحابي طائفة أو فئة دون أخرى, فما السبب في تركيز هؤلاء على مهاجمة الإسلاميين؟ الله أعلم, لكن المؤكد قطعا أنه ليس من نصرة هذه القضية.
وإذا ظل المجتمع منقسما بهذه الطريقة, بين ساكت عن الظلم غير مبال به, وبين من يرفع شعار الدفاع عن المظلوم ولكن عمله على الأرض هو شيء آخر, فإن ذلك يمثل تهديدا خطيرا لمستقبل هذه البلاد, فهذه القضية هي قضية ظلم, والظلم مناف لقوانين هذا الكون, وقد جعله الله محرما بين العباد "إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا".
ولذلك فإن الدفاع عنها ليس مسؤولية أبناء هذه الشريحة وحدهم, بل هو مسؤولية الجميع, ويجب أن يتحمل الجميع المسؤولية فيه, ويجب على الخيرين الذين يريدون وجه الله عز وجل أن يتنافسوا فيه.
وتحمل المسؤولية يقتضي القيام بعمل إيجابي لمحو الآثار التي تراكمت سنين طويلة لهذا الظلم البغيض, وذلك بنشر العلم بين أبناء هذه الشريحة وتوعيتهم, وكذلك مساعدتهم ماديا, مساعدة حقيقية تتمثل في تمويل مشاريع تمكنهم من امتلاك رؤوس أموال في ظل رأسمالية متوحشة لا تقيم وزنا للفقراء.
ولن يتم ذلك بدون تفعيل دور الزكاة المعطل, فالزكاة لم تفرض لكي يخرجها الإنسان على أقاربه, كما يحدث الآن في أحسن الأحوال, بل هي حق للفقراء في مال الأغنياء, وهناك مظهر آخر من مظاهر تعطيلها, وهو تفريقها بين الناس بحيث لا ينال الإنسان منها ما يسد له أي حاجة, تصور أن أحدهم مثلا يعطي الإنسان مائة أوقية فيقول هذه من الزكاة!.
وبعد الزكاة التكافل والأخوة بين المسلمين, وذلك بالقيام بمبادرات لمساعدة هؤلاء, تأسيا برسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم – عندما جاءه وفد من الأعراب تبدو عليهم الفاقة فقام في المسجد وحض الناس على الصدقة, فقال: " تصدق رجل من ديناره، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة ) فجاء ، رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة, رواه مسلم.
وهكذا جمع كمية كبيرة من المال بهذا الجهد عبر عنها الصحابي بـ"كومين" في دقائق نتيجة لهذه المبادرة الحكيمة منه صلى الله عليه وسلم.
فلو ركزنا على السكان المحرومين في آدوابة وفي هوامش المدن, بتعليم أبنائهم وتوعيتهم؛ ولو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم – وهؤلاء أحق الناس بها قطعا –, ولو تنافسنا في طرق مساعدتهم حتى يخرجوا من هذا الوضع المزري, لكان ذلك عملا إيجابيا يسهم في ردم الهوة بين هذه الفئة وبقية فئات المجتمع, ولتبين المحامي المخلص ممن يأكل بمعاناة الناس؛ وعندها وليس قبل, نكون قد أعذرنا إلى الله في نصر إخوتنا, وفي الحفاظ على هذا البلد من أن تمزقه الأهواء.