سقط الطفل المغربي ريان رحمه الله في البئر، ومكث فيه خمسة أيام، حاولت السلطات المغربية خلالها إنقاذه لكن دون جدوى، أخرج الطفل في النهاية من البئر لكن قضى الله أمرا كان مفعولا.
أثار هذا الحدث الأليم هبة إنسانية، تصدرتها النخبة المثقفة في بلدنا موريتانيا بجميع مستوياتها الثقافية والفكرية والإعلامية، حيث عبر كثيرون عن خالص تعاطفهم مع الطفل ريان وعائلته المكلومة، حرك الطفل الوجدان وتدفقت المشاعر تعبيرا عن المؤازرة والتعاطف، وحق لهم ذلك لأن الطابع الإنساني للقصة مثير للشفقة والبوح بالمشاعر بصفة تلقائية.
غير أن ما حظي به الطفل ريان من التعاطف الذي تجلى في أصناف التعبير عن المشاعر وخالص التضامن، رغم أحقيته وانتفاء الشك عن صدقه، لم نشهده من نفس النخبة في مآسي وكوارث أخرى مماثلة أو أشد فتكا، كانت ولا زالت تحصد أرواح مئات الأطفال يوميا في جميع أنحاء القرية الكونية الإنسانية الواحدة، وخاصة العالم العربي والإسلامي.
لم نشهد تلك الهبة الإنسانية الرائعة من تلك النخبة العربية والموريتانية بصفة خاصة أمام ما يحدث من قتل وتشريد وتجويع لملايين الأطفال في فلسطين المحتلة وفي اليمن وفي سوريا، وفي مختلف بؤر التوتر في أنحاء العالم بصفة عامة وفي إفريقيا بصفة خاصة، لما ذا لم يتحرك ذلك الوجدان ومشاعر الإنسانية الصادقة لدى تلك النخبة عندما يشاهد أصحابها ملايين الأطفال يخنقهم الحصار الإسرائيلي في بئر غزة الكبير، لماذا لا تتدفق تلك المشاعر الجياشة الصادقة عندما يشاهد أصحابها أشلاء الأطفال الفلسطينيين تنثرها الصواريخ الإسرائيلية داخل بئر غزة المهجورة، لما ذا لا تنكسر تلك النفوس الطيبة ألما عند ما يشاهد أصحابها جثث الأطفال اليمنيين والسوريين يخرجون من تحت الأنقاض، وأحياؤهم أيتاما يتضورون جوعا وعطشا على مرأى ومسمعا من عالم يرفع شعار العدالة والحفاظ على كرامة الإنسان.
لم نشهد من النخبة الموريتانية نفس الحماس الإنساني والتعاطف الأخلاقي الرائع عند ما اقتصبت طفلة موريتانية وأحرقت جثتها، أليس هذه طفلة بريئة ونفس بشرية أزهقت بطريقة بشعلة، وحالة إنسانية تستدعي التعاطف وتستوجب تحريك الضمير الإنساني في كل كائن بشري سليم من عقدة الخوف والطمع، لا سيما من النحبة الموريتانية التي تداعت بصفة إرادية أو لا إرادية إلى التعاطف مع الطفل ريان رحمه الله والهم ذويه الصبر والسلوان؟
لما ذا لم يتألم أبناء موريتانيا ويعبرون عن مشاعر الإنسانية اتجاه آلاف الأطفال الموريتانيين، الذين يموتون من فرط الجوع والمرض في بئر النسيان؟ وهم أولى بالمعروف! كم من طفل مات في موريتانيا بسبب القتل والإهمال والنسيان؟ وكم من طفل يتسول على قارعة الطريق دون معيل؟ ألا يحز هذا في النفس ويحرك مشاعر الإنسانية والرحمة الفطرية في الإنسان السليم؟
لا ينبغي أن نضن على الطفل الموريتاني بمشاعرنا، ومن لا يحسن توزيع مشاعره بعدالة، فالأولى بتناقضاته أن تبقى حبيسة صدره، حتى يفوت لغيره فرصة الحكم عليه بما لا يوافق هواه.
في الحقيقة نحن في حاجة ماسة إلى صحوة ضمير تخرجنا من سباتنا الفكري، وضعف الشعور بالمسؤولية الدينية والأخلاقية اتجاه الطفل الموريتاني، حتى تخرجه سيارة الإصلاح من غيابة جب الفساد، وتوفيه حقوقه وتكرم مثواه عسى أن ينفع الله به الوطن الذي سيؤول تدبير أمره إلى رجال الغد أطفال اليوم.