هل فرضت القاعدة إستراتيجيتها في مواجهات مالي؟ / أحمد ولد محمد المصطفى

تدخل منطقة الساحل والصحراء عموما ومنطقة الشمال المالي خصوصا مرحلة خاصة من مراحل المواجهة بين تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي والحركات المرتبطة به، وفرنسا والأنظمة الإقليمية المتحالفة معها والمجاورة لمالي، حيث يتطور الصراع بينها إلى مرحلة المواجهات العسكرية المفتوحة، ويبدأ كل طرف باستخدام ما يملك من أسلحة، وتنفيذ ما أعد من إستراتيجيات، بعد عدة أشهر من تبادل الرسائل غير المباشرة، والتهديد والتهديد المضاد.

ومع أن لكل طرف من أطراف النزاع أهدافه وغاياته، كما أن له وسائله وخططه التي يسعى من خلالها للوصول إلى هذه الأهداف، فإن إلقاء نظرة على التطورات التي عرفتها الأشهر الأخيرة يكشف أن تنظيم القاعدة والحركات المرتبطة به، خططت لسوق الأحداث باتجاه المرحلة التي وصلت إليها المنطقة الآن، ولعلها كانت تهدف من خلال ذلك إلى استباق الإعداد الدولي لمواجهتها، وسوق فرنسا وحلفائها في المنطقة إلى مواجهات لم تكن متوقعة –حسب الكثير من المحللين – قبل شهر سبتمبر القادم، وهو ما تحدث عنه أكثر من طرف غربي رغم الاستعجال المالي والإفريقي المتكرر. وقد ظهر فعل عنصر المفاجأة جليا في ردة الفعل الفرنسية، حيث لم تتحدد حتى الآن الغاية الحقيقة من التدخل الفرنسي رغم حديث أكثر من طرف فرنسي عن الموضوع، وحتى الأحاديث الرسمية الفرنسية كشفت هي الأخرى عما يمكن وصفه بالارتباك، فقد تحدث الرئيس الفرنسي أكثر من ثلاث مرات عن الموضوع ذاته (في حوالي 36 ساعة) كما تحدث فيها وزيرا خارجيته ودفاعه، وقائد جيشه، وتراوحت الأهداف التي حددوها للتدخل العسكري بين دعم الجيش المالي في وقف زحف المسلحين إلى جنوب البلاد، وحماية الرعايا الفرنسيين (حوالي 6000 فرنسي في المناطق الجنوبية من مالي خصوصا العاصمة باماكو)، وأكد قائد الجيش الفرنسي أن ليس من بين أهداف هذه العملية العسكرية استعادة السيطرة على الشمال المالي. ومع أن فرنسا أكدت أكثر من مرة وعلى لسان أكثر من طرف سياسي ودبلوماسي وعسكري أنها لن تشارك بالمرة بجنود على الأرض، وأنها ستكتفي بالدعم اللوجستي والاستخباراتي، وبغطاء جوي في حال حصلت الحاجة إليه، فإن الساعات الأولى من العملية العسكرية الموسومة "بالنمر الإفريقي" عرفت مشاركة جنود فرنسيين على الأرض، تقول المعلومات الواردة من المنطقة إن عدة مئات منهم تم نشرهم في العاصمة المالية باماكو، فيما تم نشر آخرين في منطقة سفاري والمناطق القريبة من خطوط النار. وتبدو الأهداف التي استهدفها الطيران الفرنسي حتى الآن غامضة، فبدل أن يركز على الخطوط الأمامية ويوفر الغطاء للجنود الماليين –وربما الفرنسيين- للتقدم على الأرض، واستعادة قرية كوني، ومن بعدها ادوينزا، وغيرها من مناطق التماس بين جنوب مالي وشمالها، نجد أن الطيران الفرنسي نفذ حتى الآن عدة هجمات كانت متباعدة جغرافيا وزمنيا، حيث طالت قرية كوني بالضرورة، لكن الهدف الموالي كان على عد مئات الكيلوميرات في مدينة ليرة على الحدود الموريتانية المالية، وكان الهدف الثالث أكبر المدن التي تسيطر عليها حركة أنصار الدين "تمبكتو"، فيما ظلت مناطق الإقليم الأخرى وخصوصا غاو حيث معقل حركة التوحيد والجهاد، وكيدال حيث المعقل الرمزي لأمير أنصار الدين إياد أغ غالي بمنأى عن هذه الهجمات حتى الآن. ويمكن للتراخي الفرنسي أن يفهم في سياق معرفة الفرنسيين الحقيقية لوضع الجيش المالي، وانتظارهم لالتحاق بقية الجيوش الإفريقية به، حيث تشير تقديرات رسمية مالية إلى أن أعداد الجيش المالي لا تتجاوز 10.000 جندي، وبالكاد يصل عدد المؤهلين منها للمشاركة في العمليات القتالية إلى 5.000، يفترض أن يتم توزيعهم بين المشاركة في العملية المسلحة وتأمين بقية الأراضي المالية. ولا يمكن للفرنسيين وهم من خبر المواجهات مع القاعدة في أفغانستان وفي ظل وجود عسكري دولي كبير أن يجازف بمواجهة مفتوحة مع مقاتليها في الصحراء قبل ضمان عدد كاف من الجنود توكل إليهم مهمة المواجهة على الأرض، ويحافظون على المكاسب التي يحققها الطيران لهم بعد تدمير قوات المسلحين التابعين للقاعدة وأخواتها.

 

تطورات دالة وقد عرفت الأسابيع الأخيرة تطورات دالة في سياق سوق القاعدة وأخواتها للأحداث باتجاه وضعها الحالي، ويمكن التأريخ لبداية هذه التطورات بالاجتماعات المتلاحقة والتي عقدتها الحركات المسلحة في محيط تمبكتو، وحضرها جل قادة الحركات المسلحة الناشطة في منطقة أزواد، ويبدو أنها تمخضت عن نتائج حقيقة دخلت هذه الحركات في تطبيقها على الأرض فور تبلورها بداية ديسمبر الجاري. ومن هذه النتائج: 1- القضاء على المنافسين: فقد بدأت الحركات المسلحة في الشمال المالي وبشكل متقارب إن لم يكن متزامنا، عمليات عسكرية أشبه بالحملة للقضاء على الوجود المسلح للحركة الوطنية لتحرير أزواد (MNLA)، وعلى الوجود المسلح للحركة العربية الناشطة في المنطقة. وقد عملت كل حركة في الفضاء الواقع تحت سيطرتها، فكانت المواجهة التي عرفتها مدينة مينكا بين قوات تابعة للحركة الوطنية لتحرير أزواد وجماعة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا، وانتهت بسيطرة التوحيد والجهاد على المدينة، والقضاء على الوجود العسكري المنافس فيها. فيما عملت حركة أنصار الدين والقاعدة على القضاء على الوجود في المناطق القريبة منها، فجاءت مفاوضات مدينة ليرة والتي أفضت إلى انضمام العديد من مسلحي الحركة الوطنية لتحرير أزواد إلى أنصار الدين، فيما غادر بقية المسلحين المدينة ليسلموا أسلحتهم لاحقا إلى الجيش الموريتاني، وتنفرد هذه الحركات تقريبا بالوجود المسلح والمنظم في المنطقة.  2- حصر السلاح: وتمثلت الخطوة الموالية لهذه الحركات فيما يمكن وصفه بحصر السلاح، ومصادرته من الأطراف التي قد تستخدمه ضد هذه الحركات، وقد كانت عملية الخليل على الحدود الجزائرية دالة في هذا الصدد، حيث أدت لمصادرة جماعة التوحيد والجهاد –حسب قيادي فيها- لأعداد ضخمة من السلاح من بينه السلاح الثقيل، وأكثر من 50 سيارة عابرة للصحاري، كانت لدى من وصفتهم هذه الجماعة بمهربي المخدرات وتجار الأسلحة، وهذا ما وفر عدة وعتادا لهذه الجماعات، وقلص أعداد السلاح الخارج عن سيطرتها في المنطقة. 3- حملات تجنيد: من بين النقاط التي يبدو أنها نتائج هذه الاجتماعات المتلاحقة زيادة التجنيد لصالح هذه الحركات، واستغلال البعد العرقي إن كان أجدى، حيث عرفت الأسابيع الماضية إعلان كتائب جديدة كان الطابع العرقي جليا فيها، (كتيبة أنصار السنة، من عرب المنطقة، وخصوصا البرابيش، كتيبة يوسف بن تاشفين، من الطوارق، وخصوصا طوارق كيدال، كتيبة أنصار الشريعة، من قومية الصونغاي)، هذا فضلا عن التجنيد الخارجي، والذي كانت من نتائجه انضمام العديد من المسلحين، ومن جنسيات عربية وإفريقية وحتى غربية عديدة.  4- تدريبات مكثفة: كما عرفت هذه الفترة (نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر) تنظيم العديد من المناورات العسكرية والتدريبات المكثفة، واستخدمت خلالها الأسلحة الثقيلة والمتوسطة، وكان حجم هذه المناورات وتتابعها كافيا للكشف عن أمر ما ورائها، قد لا يكون بالضرورة مجرد التهديد بتدخل دولي تفصلهم عنه قرابة تسعة أشهر على الأقل.  5- إشهار سلاح الرهائن: أما الحدث الخامس، والذي يمكن اعتباره دالا في سياق الإعداد إشهار الحركات المسلحة في الشمال المالي لسلاح الرهائن، وهم سلاح فعال خصوصا في مجال الضغط السياسي والنفسي على الحكومات التي ينتمي إلى بلدانها هؤلاء السجناء، وخصوصا فرنسا والجزائر، حيث نشرت جماعة التوحيد والجهاد أشرطة للرهينة الفرنسي لديها، وأتبعته لاحقا بشريط عن الرهائن الجزائريين، وشكل ظهور ثلاثة رهائن في الشريط من بينهم القنصل أول مؤشر مادي على رواية جماعة أنصار الدين بتصفية الملحق العسكري الجزائري في غاو الطاهر التواتي. كما ظهرت عدة أشرطة ومناشدات للرهائن الفرنسيين لدى تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وتحدث القيادي البارز في هذا التنظيم عبد الحميد أبو زيد إلى أسرة الرهائن، محملا الحكومة الفرنسية مسؤولية مصيرهم في حال أصرت على رفض طلبات تنظيمه، وواصلت توقيف المفاوضات المشتركة بينهما. وقد أعادت هذه الأشرطة التذكير بهذا السلاح الفعال، وتصدر الحديث عن هذا الملف مجال التداول الإعلامي الدولي لعدة أيام.  6- تبسيط القيادة: وإذا كان لإعلان كتائب جديدة داخل هذه التنظيمات دورها في استيعاب قوميات وأعراق وجنسيات متعددة ومختلفة، فإن لها دور آخر قد لا يقل أهمية عن الدور الأول، وهو تبسيط قيادة هذه المجموعات المسلحة،ولا مركزة قرارها في ظل توقعهم –على ما يبدو- لهجوم دولي كاسح، قد يصاحبه قطع كامل لشبكة الهاتف، ما يجعل من الضروري تحويل قرار كل مجموعة مسلحة صغيرة إلى قائد ميداني قريب منها، ويكون لكل قائد عدة معاونين يشكلون مسؤوليات إدارية مساعدة له، ويتولى أي منهم مسؤوليات أمير الكتيبة في حال حصول أي طارئ لأميرها المعين من قبل أمير التنظيم، وتتقارب في هذه الإجراءات إجمالا مختلف الحركات المسلحة في الشمال المالي. 7- طمأنة قبل الهجوم: ولعل من الخطوات الأخيرة التي سبقت الهجوم على قرية كوني والدخول الفعلي في العملية المسلحة إعلان حركة أنصار الدين عن برنامجها السياسي –ضمن خطوات طويلة من الحوار السياسي برعاية بروكينابية – وهي الخطوة التي لم يطل أمدها، إذ سرعان ما أعلنت الحركة عن إلغائها لوقف إطلاق النار، متهمة الحكومة المالية بعدم الجدية في التفاوض، وبتضييع الوقت فيما لا طائل من ورائه.

 

استحالة التحكم تبدو القاعدة وأخواتها وكما لو كانوا يسوقون الأحداث باتجاه محدد، هدفه المرحلي إدخال الأطراف الإقليمية والدولية في مواجهات مسلحة لم تتوفر وسائلها بالنسبة لأغلب الأطراف المعادية للقاعدة، لكن كل الدلائل والتجارب تؤكد أنه حتى لو صح هذا الافتراض فإن تحكم أي طرف في قواعد لعبة مشتركة سيكون محدودا، وأن هذه اللعبة –القذرة والخطيرة- مرشحة للخروج عن سيطرة جميع الفاعلين فيها في أي لحظة، وقد تكون خرجت بالفعل، فمجرد انطلاق الشرارة يجعل التحكم في الحريق مستحيلا، خصوصا وأن أزرار التحكم أضحت بعدد الأطراف المحلية والدولية والإقليمية كل حسب نفوذه وحظه من التأثير في مسار الملف الشائك، وفي ظل تضارب إرادات هذه الأطراف يكون من الصعب التنبؤ بوجهة الأحداث، وتحديد المسارات التي ستسلكها في قابل أيامها، لكن من المؤكد أنها قد تخرج عن توقعات جميع أطرافها، وإن تفاوت حجم تأثيرهم فيها. وسيكون للأطراف المتلكئة حتى الآن دورها الفاعل في هذا النزاع، ويبدو تلكؤها متفهما في سياقه، وبالأخص إذا استحضرنا أن كل الخيار المتصورة لحل هذا الملف تبدو سيئة للجارين الملاصقين لإقليم أزواد الملتهب. فاستمرار الوضع على ما هو عليه غير متصور بالنسبة لقيادة البلدين، فلا يمكن للجزائر ولا لموريتانيا أن تتجاهل تفاقم مخاطر القاعدة والتنظيمات المرتبطة بها، وعلى حدود طويلة مع البلدين، خصوصا وأن تجارب البلدين مع هذه التنظيمات غير مشجعة، كما أن رسائل الحاضر غير مبشرة. وثاني الخيارات المتصورة لحل المشكل أن يستعيد الجنوب المالي –بدعم دولي كبير وإنفاق مالي ضخم- استعادته على الشمال المالي، لكن كل الدلائل تشير أن حصول هذا الخيار مستبعد جدا، وخصوصا في ظل الأوضاع الحالية، وحتى لو حصل فلن يكون قابلا للاستمرار في ظل رغبة أغلب سكان الإقليم في الاستقلال، أو في أسوأ الأحوال الحصول على حكم ذاتي للإقليم، واستحالة بقاء قوات دولية دائمة في الإقليم. وتضيف الأوضاع في الجنوب المالي عقبة جديدة في طريق هذا الحل، إذا تبدو حاجة هذا الجنوب إلى استقرار سياسي وتجاوز للأزمة المتفاقمة فيه مساوية لحاجة الشمال إن لم تكن أكثر. وإذا تصورنا إمكانية استمرار الحركات المسلحة ذات التجربة الطويلة في حرب العصابات والمهارة في مسالك الصحراء في شن هجمات على القوة الموجودة في المنطقة محلية أو دولية فإن عبئا آخر سينضاف إلى الأعباء المانعة لحصول هذا الحل أو استمرارها. وثالث الحلول أن يمنح سكان الإقليم حكما مستقلا أو ذاتيا، ومن البدهي أن اعتماد الحلول الديمقراطية في هذا الإقليم سيجعل الحكم فيه يعود إلى الطوارق على اعتبار أنهم يمثلون أكثرية السكان، وحصول قومية الطوارق على حكم في المنطقة –مستقل أو ذاتي – سيعني الكثير للعديد من الأنظمة الإقليمية في المنطقة على رأسها الجزائر وليبيا، وحتى المغرب وتونس، ولعل سر الموقف المتشدد للجزائر من الحركة الوطنية لتحرير أزواد، يستبطن هذا البعد، ويريد إبعاد هذا الخيار حفاظا على الهدوء الحذر لمناطق الأغلبية الأمازيغية في الجزائر. ومهما كانت الخيارات والتطورات التي سيعرفها الملف فإن منطقة الساحل والصحراء شعوبا وأنظمة أمام امتحان عسير، يحتاج لتجاوزه إلى حنكة حقيقية، وقدرة على الفعل تحت الضغط، واستقلال في القرار، وتقديم لمصالح الشعوب وتجنبها المخاطر المحدقة بها، وستكون موريتانيا من بين كل الدول المجاورة أكثر البلدان عرضة لتأثير أحداث إقليم أزواد شاركت في العمليات العسكرية أم لم تشارك، فهي –للأسف الشديد – الخاصرة الرخوة والامتداد الطبيعي والأفق الإستراتيجي لأغلب مسلحي الحركات الناشطة في الإقليم، خصوصا وأن تجاربها في هذا الملف لا تبعث على الاطمئنان، ونظامها أظهر ضعفا متزايدا أمام الضغوط الفرنسية خلال الأعوام الماضية، لكنه ما يزال يعلن رفض المشاركة في العمليات الحالية، فهل سيصمد على موقفه؟

13. فبراير 2013 - 21:07

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا