تأخذ قضية رجل الأعمال الموريتاني محمد ولد بو عماتو وصراعه مع رفيق أمسه الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز أبعادا متعددة ومتزايدة، سياسيا وإعلاميا وبالطبع اقتصاديا، وحتى قبليا.
ورغم أن للنظام الحالي تجاربه في الصراع مع رجال الأعمال، واستخدام إدارة الضرائب في لي ذراع كل من "ساعدته ظروفه" في مواصلة السير في مضمار يريد ولد عبد العزيز أن يكون المتسابق الوحيد فيه، رغم ذلك فإن القضية الحالية تأخذ خصوصيتها من حجم الأسئلة التي تثيرها، والتي تفتقد في أغلبها لأجوبة شافية حتى اليوم، بدأ بسؤال سبب الخلاف الحقيقي، مرورا بسؤال التوقيت، وليس انتهاء بأسلوب التعاطي السياسي والإعلامي مع الحادث، فضلا عن المآلات التي يمكن أن يصل إليها الملف المتصاعد.
أدلة إدانة.. الكثير مما قدمه المدافعون عن رجل الأعمال ولد بو اعماتو حتى الآن يشكل أدلة إدانة له ولنظام غريمه اليوم حليف الأمس ولد عبد العزيز، وبالأخص الجدل الدائر حول الضرائب على المؤسسات المالية لبو عماتو، وكذا سحب ودائع المؤسسات العمومية من بنكه. فمساعدو الرجل يتحدثون عن ضرائب مجحفة في حق ممتلكاته، مع أنها لا تتجاوز في مجملها 4 مليارات أوقية إلا بقليل، ويعترفون في أحاديثهم للإعلام أن المطالبة ببعضها الآن غير قانونية لأنها تعود إلى أعوام مضت من بينها العام 2008، وهو ما يعني –حسب قولهم- سقوطها بالتقادم. اعتراف هؤلاء بعدم دفع الرجل للضرائب خلال الأعوام الماضية، وخصوصا العام 2008، يشكل دليلا قاطعا على تهرب الرجل من دفع الضرائب، ودليل إثبات على تواطؤ النظام مع رجال الأعمال "القابلين" لترك مقدمة الصف للجنرال التاجر، ومع أن هذه النتيجة بدهية بالنسبة للكثير من المتابعين والمهتمين، فإنها في المجال القضائي –إن كتب للقضاء أن يأخذ دوره في هذه القضية – أمر في غاية الأهمية. ولا شك أن حجم اللغط المثار حول حجم هذه الضرائب –رغم أن الوقع يقول إن امبراطورية الرجل المالية تعرضت لضربات متتالية – يثبت إحساسه –ربما لأول مرة- أن للميزانية العامة عليها حقوقا، وأن لخزينة الدولة حظا في المليارات التي استخلصها خلال عقود من قوت شعب مسكين. أما البعد الآخر المستدل به على استهداف الرجل فهو سحب أموال المؤسسات العمومية من بنكه، والسؤال هنا هو متى دخلت هذه الأموال إلى هذا البنك بالتحديد؟ ولماذ؟ توجيه أموال مؤسسات عمومية كبرى إلى بنك خصوصي واحد، يشكل دليل إدانة للرجلين (عزيز + بو عماتو) وشاهد إثبات على حجم تلاعبهما بالمال العام، وتضحيتهما به في سبيل نزواتهما الشخصية، وتواطؤهما على النهب الممنهج لهذه الأموال من خلال فوائد مجحفة يفرضها هذا البنك على الأموال الموجودة فيه، وملف شركة سونمكس (ومديريها مولاي العربي وولد آكاط) من أوضح الأمثلة على ذلك. الواجب الأخلاقي –إن كان له من قيمة لدى هؤلاء – يفرض تقديم تفسير مقنع، ومبررات قانونية قاطعة لإيداع الأموال العمومية لدى أحد البنوك الخصوصية دون البقية، وبعد ذلك يمكن الحديث عن عدم شرعية سحبها بهذه الطريقة. تشير مؤشرات عديدة إلى أن طرفي النزاع سيكونان أمام خيارات صعبة، تؤدي في أقل الأحوال إلى كشف فضائح مدوية، أدت لخسارة هذا الشعب المسكين لمئات المليارات قبل أن يدب الخلاف إلى "المجموعة" لتتسرب تفاصيل الصفقات الفاضحة من بين أصابع الجميع.
سؤال التوقيت..!! توقيت التصعيد بين الرجلين يثير هو الآخر العديد من الأسئلة، على رأسها، من حدد ساعة الصفر لتصعيد المواجهة مع الطرف الآخر؟ وما مصلحته في ذلك؟ رغم أن الخلاف بين الطرفين ظهر إلى العلن بشكل جدي منذ أكثر من عام إلا "ساعة المواجهة" المفتوحة تأخرت كل هذه الفترة، دون أن يتضح بشكل جلي من كان صاحب الدور الأبرز في تحديدها. تترنح المؤشرات بين البادئ من الطرفين، فلكل منهما فرصه في "التصعيد" في هذه اللحظة، كما أن لكل منهما قابلية أن يكون توقع تصعيد الآخر فبادره قبل إكمال استعداداته. والمؤكد منه أن لكل منهما أسلحة "دمار شامل" ضد الطرف الآخر، قد تتحكم التطورات في تحديد حجم المستخدم منها، وفي توقيت استخدامه أيضا، وقد يقع السباق في استخدام هذه الأسلحة كما وقع في تحديد تاريخ المعركة ونوعيتها. فرض الضرائب أريد له أن يكون القطرة التي أفاضت كأس الخلاف بين الرجلين، لكن متابعين يرون أن لحادثة النيران الصديقة في 13 أكتوبر علاقة وطيدة بهذا الملف، إن لم يكن في سناريوهاته التفصيلية، ففي إقناع ولد عبد العزيز بأن خلافاته مع صديق الأمس وصلت درجة اللا عودة بعد أن غاب تضامنه صديق الأمس معه في ظرف عصيب تضامن فيه الجميع معه حتى خصومه الألداء في منسقية المعارضة الديمقراطية. وكان الدليل القاطع لوصول الخلاف لعودة –حسب هذا الطرح – هو أن رجل الأعمال لم يزر صديق الأمس ولم يتصل به، أيام كان يصارع الموت في المستشفى العسكري في الضاحية الباريسية، وهو سبب كاف وحده لإثارة ضغائن الرجل، أحرى إذ انضافت له أسباب عديدة يقال إن من بينها الطموح السياسي. يدرك الجميع في موريتانيا –وعلى رأسهم ولد عبد العزيز – ما للمال السياسي من دور في توجيه دفة الانتخابات، ويدرك أكثر أن دخول رجل أعمال بحجم ولد بو عماتو على خط المنافسة معه، -خصوصا وأنه يتقاسم معه العديد من نقاط قوته – سيشكل تحديا جديا له في المرحلة القادمة، خصوصا وأن ولد بو عماتو يستشعرا خطرا محدقا بجل مشاريعه في موريتانيا، وبالتالي سيكون من مصلحته الظهور بمظهر الضحية، مع إتقان استعمال الأسلحة التقليدية في المواجهة. وقد أتقن ولد بو عماتو حتى الآن تقديم نفسه كضحية، ونال قدرا كبيرا من التضامن من طبقات وجهات متعددة، وله أياد عديدة على كثير من السياسيين (مولاة ومعارضة) والإعلاميين وقادة المجتمع المدني، وحتى من عوام الناس كما قال هو نفسه خلال مساهمته في الحملة الرئاسية لصالح خصم اليوم. ولئن وفق الرجل في "المزاوجة" بين "دور الضحية" و"دور" تاجر البشر أيام الانتخابات، فإن منافسته ستكون مستحيلة، خصوصا في ظل عجز خصومه عن اعتماد بدائل أخرى، وتفوقه عليهم في هذه الوسائل. قد لا يبدو عدم زيارة رجل الأعمال لخصمه الجديد سببا كافيا للاقتناع بوصول معركتهما درجة اللا عودة، لكنها حين تلتحم بالتأكد من الطموح السياسي، تكون مبادأة هذه المعركة المؤكدة أولى من تأجيلها، وحينها لن يكون أمام الطرف الآخر سوى الرد بالمثل على مصدر النيران. وسواء كان ولد بو عماتو البادئ في المعركة أم المدافع عن مواقعه، فإن تطورات الأحداث تقول إن العديد من أسلحة الطرفين أشبه بالحزام الناسف قد تضر حاملها قبل أن تضر الخصم، وهي في كل الأحوال سلاح له أكثر من حد، أحدها بالتأكيد موجه ضد حامله. وما كشفته الأحداث حتى الآن يثبت صحة هذه الفرضية، فالتهرب الضريبي والانتقاء في إيداع أموال المؤسسات العمومية أثبت حقيقة الانتقائية فيما يسميه النظام وأنصاره "الحرب على الفساد"، كما محاضر التحقيق المختفية مع ولد الدباغ أثبتت تورط بو عماتو في ملفات عسكرية وأمنية عديدة، وأكدت تهرب الرئيس والرئاسة من دفع أجرة طائرات تم استخدامها في مهام تابعة للرئاسة. هي إذا لعبة مكايد، وصراع "مافيات" ستكون نتيجتها لمن أتقن التعامل مع الواقع المتغير، ونجح في تخفيف خسارته من أسلحته هو قبل أسلحة خصمه، وسيكون الشعب المسكين أكبر خاسر في هذه المعركة "القذرة"، كما أن خسارته ستكون أكبر لو نجح أطراف اللعبة في الوصول إلى طريقة لإعادة قواعدها كما كنت أيام العام 2008.
خاسر... خارج اللعبة.. لا يمكن الحديث الآن عن فائز وخاسر بين طرفي اللعبة القذرة المستمرة حتى الآن، إلا أن نتائجها الجزئية تشير إلى وجود أطراف تعرضت لشطايا قد تكون قاتلة من هذه المعركة رغم أن مشاركتها فيها محدودة وغير مؤثرة، ومن بين هذه الأطراف أحزاب وشخصيات سياسية، وأطراف مجتمعية وإعلامية ومدنية. كشفت هذه اللعبة –وقبلها عديدات – عن ترنح أحزاب منسقية المعارضة، وغرقها في مستنقع سياسي موحل، وفقدها لأي بوصلة تعرف بها اتجاه سيرها، وهو ما دفعها للتعلق بأي خيط، والبحث عن أي فرصة، ناسية أو متناسية أن الانتهازية البحتة، والارتجالية القاتلة لا تغير واقعا ولا تبني مستقبلا، وأن العيش على أخطاء الآخرين، وانتظار عثراتهم سلبية مقيتة لا تليق بمن يراد منه تغيير الواقع وبناء المستقبل. لقد أثبتت حادثة ولد الغيلاني، والرصاصة الصديقة، وحرب مالي، وقضية ولد بو عماتو افتقاد منسقية المعارضة لأي برنامج سياسي، واعتمادها على الانتظار، ومتابعة جديد الأخبار علها "تمنح" فرصة لإصدار بيان، أو اتخاذ موقف، أو التضامن مع "شخص ما"، دون القدرة على المبادرة والمبادأة، واستشراف المستقبل والعمل للتحكم فيه. تمتلك منسقية المعارضة قدرة خارقة على تغيير "الجلود" واستبدال "الأوصاف"، فرمز الفساد بالأمس يمكن أن يتحول إلى ملاك أمين، وجلاد الأمس ضحية اليوم، ورأس ناهبي المال العام، رجل أعمال شريف اليوم... وربما انقلابي الأمس ديمقراطي الغد... نجح ولد بو عماتو حتى الآن في تحريك إخطبوط له عدة رؤوس، منها السياسي والإعلامي والمجتمعي، ويبدو أن للإخطبوط أذنابا أخرى عديدة ربما يدخرها الرجل لأوقات أكثر حرجا، ويخضع هذا الإخطبوط الطويل بكل تشعباته لسبابة رجل الأعمال المغضوب عليه. إن أزمة موريتانيا اليوم متعددة الأوجه والقسمات، فهي تعيش "تيها" خطيرا على مستوى معارضتها، أفقدها البوصلة وحولها إلى طرف في الأزمة الداخلية لأطراف الحكم، وسلاحا بيد أحد هذه الأطراف. كما أن نخبتها الحاكمة تعيش صراعا محتدما بين أطراف الرئيسية، ويبدو من حجم الإعداد للمعركة، والمناوشات التي وقعت حتى الآن، أن الخسائر قد تفوق توقعات الجميع، وأن الأسلحة المستخدمة فيها لن تخضع للكثير من القواعد الأخلاقية أو القانونية، ولا لضوابط المواجهات النظيفة؛ إن كانت فعلا توجد مواجهات نظيفة.