إن الناظر بعين فاحصة إلى عالم السرعة في كل شيء؛ يوشك أن يصاب بصدمة عميقة جهة أبناء الجيل، المصابون بغربة داخلية سببتها وسائل التواصل الاجتماعي، غربة تطال عالمي المثل والواقع؛ غربة عن القيم الفاضلة، وغربة عن الوسط المحيط؛ تشعر المتلبس بها بحب ملازمة العزلة الداخلية، وعدم العيش في واقع الأسرة والأهل والمجتمع، تراه يحبذ الانعزال والتدثر بالصمت، يخلط بين الأناة الظاهرة بالأهبة الباطنة، ومسايرة للسواد الأعظم الذي يعيش حياة سريعة الإيقاع على فضاءات الألعاب والتطبيقات الرقمية، لا يفوت فرصة لتحقيق مكاسب وهمية لمنافسات افتراضية..غايتها تكثيف إحراز النقاط والإعجابات والتفاعلات والمشاركات..
صور ظاهرة بلا حقيقة باطنة.. وشواغل قاهرة بلا نفوس آمنة.. وقلوب ساهرة بلا بصيرة ساكنة.. وعيون باصرة بلا بصيرة .. وغيوم رمادية خالط دخنها بياض السحاب..وألباب غيرها سخف الفهم فصارت تلهث خلف السراب.. وتطبع تغلب على السجايا فحولها إلى تراب.. وجهل نسج خيوط عنكبوته في عقول الشباب..
أجيال تسير بلا هدف، سرعة مشرعة الأبواب .. .. في إلقاء السلام..في إطلاق الأحكام.. في تبديد الأموال.. في تخطئة الأقوال.. في اتهام النيات.. في تضييع الأمانات.. في صناعة التفاهات.. في تمييع الاهتمامات.. في تسليع الاختيارات.. في الهرولة نحو الوهم.. في المسارعة نحو جمع زائف لمتاع الدنيا القليل .. في الانشغال الدائم بالقال والقيل.. في محاكمة الأفكار.. في تخوين الأبرار.. في تقديم غير المقدم.. في تتفيه التمسك بالقيم.. في اللهث خلف سفاسف القدوات.. في تسميم الأفكار والقناعات..في زرع بذور العنف والاحتراب.. في تصويب المغتاب.. في صناعة جيل مغيب..
إلى أين يسير الجميع؟..
إذا لم يتم تدارك الأمر، وتصحيح اعوجاج سلوك الناشئة، فقد يحدث انفصام بين الأجيال مع واقعهم..
وربما قد يصل الوضع إلى نقطة نهاية المسار، يصطدم فيها بحاجز الفطرة - وهو ما نرجو حدوثه-؛ فيوقظه من سباته العميق، ويعيد عملية تشكل القيم العامة الجامعة إلى أصلها، لأن؛ الأصول والقيم الفاضلة لا تتغير بتغير الأزمان والأماكن، بل تبقى ثابتة ثبات الرسوخ في الذاكرة العالمة، وتمثل معينا معرفيا لا ينضب رغم كثرة طلاب الري على الظمأ؛ ظمأ علمي متجدد بتجدد الحوادث، وحاجة كينونة الأمة إلى المحافظة على الأسس الناظمة لتميزها الحضاري، واستحقاقها للخيرية والشهادة على الناس، شهادة تتطلب التصديق بعالم الغيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولكن بقيد مراتبه وضوابطه، فلا يعقل أن تترك قضايا.. القيم الجامعة.. ومحاورة الأفكار ومناقشة الآراء .. هملا.. يدلي فيها كل أحد بدلوه الممتلئ طينا وغثاء.. يكدر به صفو ماء التراحم.. ويكيل السباب والشتائم بلا حدود.. ويقدم فكرا معوجا تتربى عليه الناشئة؛ فينشأ ناشئ الفتيان فيها على ما تعود متابعته ومشاهدته والإعجاب به..وإذا بحث عن القدوة الصالحة تطالعة نخبة لا تتقن أدب الخلاف.. وتضيق ذرعا بالمخالف في الرأي..وبعضها يتقصد اتهام البعض في عقيدته، وتلك الماحقة الحالقة.. إذ المراد إدخال الغير في الملة لا إخراج الجزء منها.. وأمر العقائد شأنه عظيم مناطه القلوب ولا يطلع عليه إلا علام الغيوب جل جلاله، وأما الحكم به فمتروك للقضاء العادل، ولا محل فيه للتشهي، إلا ما قامت عليه البينة وقال فيه القاضي كلمته الفصل بعد استيفاء مسطرة التقاضي والتحقق من انتفاء الموانع..
ثم إن تصور المسائل منوط باستيعاب؛ الوقائع والأحوال والسياقات والشخوص، ويتسم بالتغير والتجدد خلافا للتأصيل، ويتحقق حسنه بفهم الوسط المحيط في أبعاده المتعددة؛ الفردية والمجتمعية والثقافية وأنماط المعاش، والعقود الجامعة للقواعد المنظمة، والأدوات الناظمة للأعمال.
ثم إن الحضارات القوية تشيد ببناء الإنسان، وصناعة الفكر التنويري و التنموي، والمحافظة على الثوابت، وحماية الخصوصية والحق في الإختلاف، والرقي بوعي المجتمع، وزراعة الوازع في النفوس، وبث الوطنية والشعور الانتماء، والتحلي بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية.
مع العمل على استتباب الأمن المجتمعي، بعيدا عن الفوضوية والانفلات، ثم إن التحول نحو ممارسة صناعة الفقه واقعي لا بد له من النظر وفق سياقات معاصرة، تواكب النوازل المتجددة وأولها ظهور الأدوات الرقمية في حياة الناس، والعمل على ما يحتاج إليه ضمن قابلية الذاكرة الجمعية لمفهومي.. الثبات والتغير ، وباستخدام آليات المشاركة والمشاورة والمحاورة والمناقشة للقضايا الكبرى بتأن وروية.. و البحث عن ضمان لتوفير عدالة جامعة مانعة، وتوفير أسلوب يتواضع عليه الجميع يحيد الفراغ عن الأوقات ويقدم بدائل مقبولة شرعا وعرفا، تحوي امتاعا غير مخل، وتعليما غير ممل ، طبق قوانين عقلية تأصيلية مؤسسة على قواعد حاكمة لا تحابي ولا تجافي، تخضع لصرامة العقد الجامع، ولا تنجرف خلف الانطباعات، تعيد النظر في فهم الظواهر والتغيرات، مع التمسك بحسن الاتباع باعتباره طوق نجاة في وجه أمواج التنطع والتطرف والانحلال والابتذال، ودون التفريط في عقد الأسرة الجامع، إذ بدونه لا وجود للمجتمع الصالح.