في خضم الاختلالات البنيوية لمنظومتنا التعليمية، الناتجة عن تراكمات الأنظمة السياسية المتعاقبة، برَزَ نورٌ في نهاية النفق، مع عهد فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، الذي رأى أن المدرسة الجمهورية هي المناط السليم لانتاج المواطن الصالح، القادر على بناء وطنه والذود عن مكتسبات أمته. فقد كان ذلك التعهد الرئاسي بمثابة المفتاح الآمن لقاطرة التنمية، وكلمة السر المؤدية لتناغم مكونات الوطن وتنوعه الثقافي، مع قيَّمه الدينية السمحة، وهويته الحضارية. وقد برهن إشراف فخامته على فعاليات الدخول المدرسي من مقاطعات الرياض، امبود ودار النعيم، إلى ترسيخ قناعة مفادها أن التعليم هو الخلاص الوحيد من التهميش والغبن والإقصاء.
وفي أبهى تجلياته؛ فإن إصلاح التعليم يتلخص في تحقيق هذا النموذج الوطني الذي يفتح الباب على مصراعية أمام الطفل الموريتاني ليتلقَّى منهجا تربويا واحدا وفي بئة دراسية ملائمة حيث اختفاء الفوارق وتكافؤ الفرص.
إن إصلاح التعليم مشروع حضاري له ما بعده، ولايمكن أن يأتي بين عشية وضُحاها فهو يتطلب تضافرَشروط مهمة كإرادةٍ سياسية جادة، واجماعٍ وطنيِّ على أهدافه وشكله ومضامينه، وحكامةٍ قطاعية - تُوضع تحت تصرفها الموارد اللازمة، ويُعهد إليها بوضع القطار على السكة - مدعومة بمجلس أعلى للتهذيب يضم الخبراء وأصحاب التجربة من أهل الاختصاص وغيرهم من الفاعلين في العملية التربوية.
وبالرغم من الاكراهات الدولية المعروفة - مثل انتشار وباء كوفيد 19 المستجد والتراجع الاقتصادي العالمي - التي تزامنت مع الفترة المنصرمة من مأموريته - لم يتردد صاحب الفخامة الرئيس: محمد ولد الشيخ الغزواني، في رسم تلك الخطة الآنفة وتنفيذها ومتابعتها. فمن باب العدالة في توزيع الثروة الوطنية؛ بلغت الموارد المالية المعبئة للتعليم مايقارب 1/5 الميزانية العامة للدولة وهي موجهة بالأساس إلى تحسين المردودية التربوية للتحصيل المدرسي، ودعم وتحفيز المدرسين الميدانيين والتلاميذ المتميزين. حيث عرفت علاوات البعد والطبشور والتجهيز والتأطير، زيادات نوعية ومعتبرة. مع استحداث جوائز عينية معتبرة للمتفوفين.
ولجعل خطة الاصلاح واقعا ملموسا؛ باشر القطاع المكلف بالتهذيب الوطني جملة اجراءات في غاية الأهمية منها:
اطلاق تشاوروطني وجهوي موسع - يهدف إلى تصوُّر المدرسة التي يريد الموريتانيون - فكانت مخرجاته عصارةً نقية من نقاشات المربين والخبراء والساسة وهيئات المجتمع المدني. حتى أخذت مسارها التوجيهي لتكون مصدرا لتحيين القوانين المنظمة للتعليم.
ومن أجل ضبط الوسائل التعليمية والمصادر البشرية والمادية، وتمشيا مع التحول الرقمي الذي تنتهجه الحكومة؛ بادر القطاع الى انشاء منصة الكترونية للتهذيب، تهدف الى عقلنة وضبط وتسيير الموارد وتحديث قواعد البيانات وتحيينها للوقوف على مكامن الخلل والنقص.
وعلى المستوى المعنوى؛ ولأول مرة اطلقت الوزارة "مشروع إعادة تثمين مهنة المدرس وتطوير المصادر البشرية لقطاع التهذيب". وفق مقاربة متدرجة، تقوم على التشاور والشراكة بين مختلف الأطراف الفاعلة في القطاع، من أجل العمل على تنفيذ الإجراءات الهادفة إلى تحسين الظروف المادية والمعنوية للمدرسين، وفي هذا الإطار عمد القطاع الى مباشرة إصلاح مدارس المعلمين، ومراجعة نظام الأسلاك واستحداث سلك معلم رئيسي ضمن الفئة (أ) مع تنظيم انتقال سلس لمئات من الأساتذة والمعلمين إلى الأسلاك الأعلى رتبة، إضافة الى الاكتتاب الداخلي المكثف للمفتشين والمكونين وتسوية وضعية المكلفين بالتدريس.وترسيم الكثير من مقدمي الخدمة.
وللتحكم في حجم الطاقة الاستيعابية، - من جهة - ومن أجل سد النقص - من جهة أخرى - سارعت الوزارة الى اكتتاب آلاف المدرسين - هو الأعلى من نوعه في تاريخ البلاد- في جميع الاختصاصات وفي كل المستويات، مع إطلاق برنامج سنوي للتكوين المستمر، خلال العُطَل الصيفية؛ سيستفيد منه المدرسون الميدانيون في الولوج الى المستجدات التربوية، والمقاربات التعليمية. مع ما يُواكَب به المدرس محليا من دعامات ومستندات وتطبيقات وملتقيات تأطيرية. مع العمل الدؤوب في مراجعة البرامج وتطوير المناهج والكتاب المدرسي.
وفي إطار تحسين العرض المدرسي، وتوفير الجو الملائم والآمن فقد أعطى فخامة الرئيس الضوء الأخضر وفق البرنامج الموسع (أولوياتي) لبناء 2000 حجرة دراسية بمعايير فنية عصرية، مع ترميم وتأهيل الكثير من المنشآت المدرسية في طول القطر وعرضه، وفي ذات السياق أقرت الحكومة مرسوما ينشئ لجان تسيير للمدارس الأساسية تُمَثل فيها المدرسة والبلدية وروابط الآباء، وتسند إليها مهمة العمل على الرفع من جودة التعليم وتوسيع قاعدة الولوج ومحاربة التغيب ومكافحة الفوارق الاجتماعية. وتسييرالمدارس وفق مقاربة تشاركية.حيث إن المقاربات التقليدية في التسيير، لم تعد قادرةعلى توفير بيئة مدرسية جذابة وآمنة تشجع على التحصيل وترفع من جودة الأداء، فالتسيير التشاركي يعتبر اليوم هو المقاربة الأكثر نجاعة نظرا لما يتيحه من فرص التنسيق والتعاون بين القائمين على المدرسة والمستفيدين والفاعلين الآخرين في العملية التربوية.
وللتفاعل مع الفاعلين المهنيين من نقابات وروابط أولياء التلاميذ أخذا وعطاء وتكريسا للشفافية؛ انتهجت الوزارة المكلفة بالتهذيب سياسة الأبواب المفتوحة، واشراك المعنيين بالعملية التعليمية في الرأي سبيلا الى تحقيق الواجب المهني والأخلاقي، والرفع من مستوى الأداء، وتحسين الظروف المادية والمعنوية لهيئتي التدريس والتأطير، مع الحرص على الحوار والانفتاح مقابل الابتعاد عن التشويش والتأزيم والتوتير.
ويمكننا - ونحن في منتصف مأمورية فخامة رئيس الجمهورية، وبفضل الانفتاح والإرادة الجادة التي ينتهجها القطاع المكلف – أن نقول إنه تحقق الكثير في طور اصلاح التعليم وترشيد حكامته واستغلال موارده البشرية والمادية، ومازال الكثير يحتاج قوة الإرادة والتصميم، والأمل معقود علينا معاشر الأسرة التربوية أن نبرهن على فهمنا لمقاربات أداء الواجبات والمطالبة بالحقوق ولكل منها صيغه التي نستقيها من الحياة المدنية والشعور بالضمير المهني واستلهام الوازع الديني.