بالتأكيد ليست لدينا أيّ مشكلة مع فرنسا كدولة ولا مع الفرنسيين كشعب، ولا شك أننا لا نُعاني من الانهزام النفسي ولا الحضاري أمام الآخر الأكثر حظوة من تقدم أو الأكثر وفرة في الإنجاز! لكن الراصد المُتَقَّصِي بحيادية منصفة لواقع التعليم العالي في موريتانيا عموما ومرحلة ما بعد الليسانس خصوصا يُدرك بتجردٍ تام حجم الأثر السلبي الذي يورثه استخدام اللغة الفرنسية كلغة رئيسية لدراسة وتدريس العلوم الدقيقة, من تأخر ملحوظ في اطلاع المجتمع الطلابي على جديد المعارف والدراسات العلمية وسلاسة الولوج للمعلومة الدقيقة الصحيحة المستجدة, وهذا دون اكتسابهم ضمان ولوج للجامعات الفرنسية لمواصلة دراساتهم العليا دون إثبات إتقان اللغة الفرنسية وذلك بالحصول على شهادة فيها!, علما أنّ الطالب الموريتاني ذو التخصص العلمي يدرس اللغة الفرنسية وباللغة الفرنسية منذ السنة الثانية الأساسية!, فلا هو استفاد استفادةً قصوى من النشر البحثي العالمي المستجد والمتاح أمام الكل لكونه باللغة الإنجليزية, ولا هو استوفى ثقة المنظومة التربوية الفرنسية ليتسنى له الالتحاق بتعليمها العالي!.
زد على ذلك أنّ التعليم العالي الفرنسي يشترط استيفاء المستوى المتقدم من اللغة الإنجليزية للحصول على شهادة الماجستير، وحتما ستعجزُ تمام العجز عن البدء في برنامج دكتوراه في جامعة فرنسية إذا لم تكن لديك شهادة تُثبتُ المستوى المُتقدم في اللغة الإنجليزية، وتظل إمكانية مناقشة الأطروحة وكتابتها باللغة الإنجليزية دائما إمكانية واردة بقوة دائما! مما يعني استيعابه لأهمية ومحورية هذه اللغة في عالم الأبحاث والتقدم التقني والتجاري. فما أحرى للدولة الموريتانية أن تختصر طول المسافة لصالح تعليم عالٍ نموذجيٍّ ومثالي يُحقق لشعبها تطلِّعه في بناء كفاءات وطنية مدججة بأحدث المستجدات المعرفية والعلمية والتقنية، بدل الاعتماد على نظام دولة أجنبية ليس لدينا من نفس مقدراتها ولا نفس جودتها في التعليم ولا ذات الثقة العالمية في التكوين التربوي لخريجيها.
دَرَسْتُ في جامعة أنواكشوط العصرية لمدة خمس سنوات على الأقل زائد سنة من الاستغراق في بيئة البحث واستكشافِ فضائه عن كثبٍ هناك، وخلال هذه الرحلة الطويلة التي حصدتُّ خلالها شهادتين، يُمكنني أن أؤكد حقيقة موضوعية مؤسفة اِختبرتها عن مُعاينة واقعية، تكمن في أن عدم إتقان اللغة الإنجليزية باحترافية حقة على صعيد الطلاب والأساتذة جعل التعليم العالي الموريتاني يفقد مكانة مرموقة كان من المفترض أن يحققها منذ أمد. يكفيك فقط لتدرِك حجم الفَوْتِ لنظامنا التعليمي وسعة الفجوة بين ما ندرسه وبين ما يدرسه العالم الأكثر تقدما أن تحوز على مُستوًى مُتوسط أو أول المُستوى المُتقدم في اللغة الإنجليزية بحيث يُمَّكِنُكَ من مطالعة الكُتب والمراجع والموسوعات الكُبرى وثم الأبحاث والمجلات العالمية المرموقة في مختلف مجالات العلوم التطبيقية والانسانية وسترى بنفسك أنَّ هناك الكثير من المعارف في مجمل المجالات فائتة على المناهج التعليمية في موريتانيا وعلى معظم الدول الفرنكوفونية بشكل مُتفاضل, فالعارف بمعالِم المنظومة التربوية الفرنسية يُدرِكُ أنَّ حركة الترجمة للمناهج ومُحتوى الدراسات باللغة الإنجليزية هي حركة كثيفة ونشطة بشكل سنوي, بينما تكتفي المنظومة التعليمية الفرنكوفونية في أحسن الأحوال بالترجمات الجاهزة في المنهج الفرنسي المُتاح على الانترنت, وتبقى رهينةً لمدى الاتاحة للنشر الفرنسي مُتَصَيِّدَةً منه ما يوائم سوق العمل فيه من التخصصات! هذا طبعا مع استثناءات يسيرة.
في المُجمل، الحضور الباهت الضعيف للغة الإنجليزية في التعليم العالي الموريتاني، والذي لا يَتَبَادَى إلاَّ حِينَ الموقف الفارٍضٍ مَدْعَاةً له كضرورة النشر البحثي بالإنجليزية لغرض رواج البحث مثلا، هذا الحضور الضئيل مسؤول عن ثلاث معالم قصور مُعِيقَة لتحقيق الإنجاز في عالم البحث والتعليم العالي:
أولاً: منهج تخصصاتي ضعيف الموارد للغاية لا يبلغُ ثراؤه الحد الأدنى من آخر المستجدات للمعلومة العِلمية، لدرجة أنكَ قد تتخرج خلال ثلاث سنوات بشهادة دراساتٍ عُليا في مجالٍ مُعيَن، وأنتَ لم تدرس فيه إلاَّ الأساسيات القديمة!! تشعر أنَّ وقت تخرجك كان أبكر مما ينبغي أن يكون فورَ أن تبدأ مرحلة البحث وتجد نفسكَ تفتقد لكثير من المعلومات الأُسُسِيَّةِ التي تغيب عن قاموسك المَعَارِفِيِّ المُفترض أن تكون تلك المرحلة الأولى من دراسة التخصص قد أكْسَبَتْكَ إياه.
ثانيا: نشرٌ بحثيٌ زهيد للغاية باللغة الإنجليزية يكاد يكون منعدم في مرحلة الماجستير, ومحتوى الأبحاث المنشورة لا يكاد يكون ذو قيمة حقيقية تستحق النشر في الأصل, فأغلبه مجرد دراسات إحصائية, قد تكون هامة بالفعل للاعتبار المحلي والإقليمي في إطار البرامج الحكومية وبرامج الدعم الأُمَمِية, لكنها لا تُشكل إضافة نوعية للعلم والبحث العلمي في الواقع, والسبب يعود لغياب خلفية موسوعية غنية لدى طالب الدراسات العُليا في مجاله بحيث يسترشد بها في تقرير الجزئية التي تطرحُ إشكالية موضوعية ذات الإمكان الواعي للتنفيذ وتخدم المجتمع الموريتاني فضلا عن إضافتها الملموسة للعلم, ومن الجَلِيِّ أن هذه الخلفية لا تتخلق لدى الفرد حين يكتفي بالتحصيل المرجعي بلغة غير اللغة الإنجليزية كاللغة الفرنسية.
ثالثا: غياب شبه كامل لوجود شراكات بحثية وتبادلات أكاديمية للكليات الثلاثة مع مؤسسات علمية رائدة في العالم الرائد الذي يمكنه توفير بيئة بحثية أثرى من حيث الإمكانيات وجودة التدريس والتجربة التعليمية الأكاديمية مما ينعكس سلبا على نظرة المجتمع تجاه مشاريع البحث القائمة لدى الجامعة، فيشيع في نمطيته السائدة أنْ لا جدوائيةً لتلك الأبحاث في الواقع.
هذه العُزلة الغير مرضية وتوابعها الوخيمة على جودة التعليم العالي الموريتاني وفضاء الأبحاث فيه تعود بالدرجة الأولى إلى غياب التوجه في الشراكات إلى المجتمع العلمي الأكاديمية الناطق باللغة الإنجليزية.
ختاما, إذا كان من حق المجتمع الموريتاني أن يقف بحقيق الادراك على وضعياته الصحية والاقتصادية والثقافية والتاريخية، وإذا كان من حقه أن يعرف طبيعة الأمراض التي قد تسوده والوبائيات المُتوطِنة لأرضه، وسُبُلِ تجنبها والاستغلال الإيجابي لها, وإذا كان من من حقه أن يعرف مدى مرونة اقتصاده والمدى الدقيق لتناميه وارتخائه، وطُرق تنميته وخط مساره الذي يتوجب سُلُوكُه, وإن كان من حق المجتمع الموريتاني أن يتقدم ثقافيا ويُساهم في تطوير المنظومة الحضارية والقيمية العالمية, وإن كان من حقه إثراء الموروث الإنساني القابل بأقلام موريتانية تكتب بشكل ناضجٍ متعالٍ على ثقافة الانهزامية والنزعة الدونية, وإن كان من حقه كتابة تاريخه بمعايير أكثر موضوعية تسترشد بالمنهج العلمي وأدوات العلم, فإنَّ إحقاق مثلَ ذلك الحق لا يكون إلى بتعليمٍ عالٍ غير مبتور من فلكِ المجتمع العلمي العالمي وذاك العالم تكاد تكون اللغة الإنجليزية فيه بمثابة بطاقة تأشيرة للعبور إليه: فهل يا تُرَى ستتحمل الجهات الحكومية مسؤوليتها المصيرية تجاه هذا التعليم وتُعلن اِعتماد اللغة الإنجليزية كلغة تعليم أساسية فيه!.
….
الكاتب: محمد عبداوه.. طالب دكتوراه في البيولوجيا الجُزيئية..