الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه اجمعين
وبعد:
قبل عدة ايام قرأت خبر وفاة العالم الفلكي الكويتي صالح العجيري رحمه الله.
والعجيري هو أول من وضع تقويما لأوقات الصلاة في العاصمة انواكشوط.
قبل وجود هذا التقويم لم تكن هناك مشكلة في تحديد اوقات الصلاة حيث كان الناس يعتمدون على الرؤية المباشرة..
في ذلك الوقت لم تكن المساجد كثيرة وكان معظم أئمة المساجد من الفقهاء المعروفين والقضاة وشيوخ المحاظر الذين يعرفون من اين تؤكل الكتف.
وقد كنت اصلي في مسجد يصلي فيه جماعة من فقهاء "أهل بو حبيني" وهم السكان الاصليون للعاصمة وأعرف الناس بأوقاتها مع ما فيهم من الفقه.
كانت صلاة الفجر لا تقام في هذا المسجد الا بعد ان يتحقق اغلب الجماعة من رؤية الفجر مباشرة ولا يبقى شاك ؛ وعمدتهم في ذلك قول آدّه رحمه ا:
وكرهوا البدار للصلاة
باول التحقيق للاوقات
واجتبوا التأخير حتى
يتضح الوقت اتضاحا بتا
بحيث يستحيل ان تحارا
بعدُ ، وبعدُ اجتبوا البدارا
وشعارهم قول ديلول في "الظاله" : (اخير ذاك الي يعكَبْها من ذاك الي يسبكها).
لكن بعد اعتماد تقويم العجيري من طرف الوزارة وتوزيعه على المساجد اصبح الكثير من المؤذنين يقلد هذا التقويم ولا يعتمد على الرؤية المباشرة .
و مع الأيام كثرت المساجد وجاء جيل من المؤذنين ليسوا من الفقهاء الذين يعرفون وقت الفجر انطلاقا من الاحكام الفقهية ؛ وليسوا من اهل البادية الذين يعرفون الفجر انطلاقا من الدربة والممارسة !
فاصبحوا يقلدون هذا التقويم تقليد الاعمى للدليل !
وقد نبه العلماء الذين حققوا هذه المسالة وتابعوها ان معظم التقاويم في العالم الإسلامي متقدمة على الوقت خاصة في صلاة الفجر .
يقول الشيخ بن عثيمين رحمه الله :
(بالنسبة لصلاة الفجر المعروف ان التوقيت الذي يعرفه الناس ليس بصحيح فالتوقيت مقدم على الوقت بخمس دقائق على أقل تقدير وبعض الاخوان خرجوا الى البر فوجدوا ان الفرق بين التوقيت الذي بايدي الناس وبين طلوع الفجر نحو ثلث ساعة فالمسالة خطيرة جدا ولهذا لا ينبغي للإنسان في صلاة الفجر ان يبادر في إقامة الصلاة وليتأخر نحو ثلث ساعة او 25 دقيقة حتى يتيقن ان الفجر قد حضر وقته)شرح رياض الصالحين ٣/٢١٦.
وقال الالباني رحمه الله :
(وقد رأيت ذلك بنفسي مرارا من داري في "جبل هملان" جنوب شرق عمان ، ومكنني ذلك من التأكد من صحة ما ذكره بعض الغيورين على تصحيح عبادة المسلمين، أن أذان الفجر في بعض البلاد العربية يرفع قبل الفجر
الصادق بزمن يتراوح بين العشرين والثلاثين دقيقة، أي قبل الفجر الكاذب أيضا!
وكثيرا ما سمعت إقامة صلاة الفجر من بعض المساجد مع طلوع الفجر الصادق، وهم يؤذنون قبلها بنحو نصف ساعة، وعلى ذلك فقد صلوا سنة الفجر قبل وقتها، وقد يستعجلون بأداء الفريضة أيضا قبل وقتها في شهر رمضان، كما سمعته من إذاعة دمشق وأنا أتسحر رمضان الماضي (1406) وفي ذلك تضييق على الناس بالتعجيل بالإمساك
عن الطعام وتعريض لصلاة الفجر للبطلان، وما ذلك إلا بسبب اعتمادهم على التوقيت الفلكي وإعراضهم عن التوقيت الشرعي ).سلسلة الاحاديث الصحيحة عند الحديث رقم : ٢٠٣١
****
والسبب في هذا الخطأ أن التقاويم لا تعتمد على الطريقة الشرعية في تحديد وقت صلاة الفجر وهي الرؤية المباشرة .
وانما تعتمد على حساب زاوية انحدار الشمس تحت خط الافق.
فكلما كانت الزاوية اصغر كانت الشمس اقرب للافق وكان الضوء أكثر وضوحا.
ولكن اصحاب هذه التقاويم اختلفوا في تحديد الزاوية التي يجب اعتبارها بداية لظهور الفجر الصادق !!
فمنهم من جعل تحديد الفجر انطلاقا من الزاوية (19) درجة.
ومنهم من اعتبره بداية من زاوية(18) درجة.
ومنهم من اعتبره بداية من زاوية (15)درجة .
وفارق التوقيت بين هذه الدرجات قد يمتد من 5دقائق الى 25 دقيقة !
ويمكنك ان تلاحظ الفرق بين هذه التقاويم تبعا لاختلافها في الزاوية اذا نظرت الى تحديد وقت صلاة الفجر في انواكشوط بتاريخ اليوم (4 مارس 2022) بحساب بعض التقاويم المشهورة :
١- تقويم رابطة العالم الاسلامي : 6:08 ص.
٢- تقويم جامعة العلوم الاسلامية في كراتشي :6:08ص.
٣- تقويم جامعة ام القرى : 6:06ص.
٤- تقويم الهيئة المصرية العامة للمساحة: 6:02ص.
٥- تقويم الجمعية الاسلامية لامريكا الشمالية : 6:22ص.
وتقويم العجيري وكذلك تقويم رابطة العالم الاسلامي يعتمدان على زاوية (18) درجة .
والهيئة المصرية العامة للمساحة تعتمد الزاوية 19.5، والمغرب تعتمد الزاوية 19، والسعودية في تقويم ام القرى تعتمد الزاوية 18.5، في حين تعتمد الزاوية 18 كل من: الأردن وفلسطين والكويت وسلطنة عمان والبحرين وقطر والعراق واليمن والسودان وتونس والجزائر وتركيا ودول اخرى.
واما تقويم الجمعية الاسلامية الامريكية فهو احدث التقاويم وهو ينطلق من زاوية (15)درجة.
وقد كنت منذ سنوات اقارن بين اتضاح الفجر في انواكشوط وبين ما هو مقرر في هذه التقاويم فلاحظت ان تقويم الجمعية الاسلامية لامريكا،
هو اقربها الى الواقع واكثرها مزامنة للفجر الصادق.
وقد ادعى بعض الفلكيين المناصرين لهذه التقاويم ان الجمعية الاسلامية لامريكا رجعت اخيرا عن اعتماد زاوية (15) درجة .
وبغض النظر عن صحة ذلك ،
وأيا كانت الاسباب والضغوط التي جعلتها تتراجع؛ فقد بينت الدراسات الميدانية من طرف اهل الاختصاص ان اقرب زاوية مطابقة للفجر الصادق هي مابين ( 5 ,14 إلى 15)درجة
ومن هذه الدراسات المشهورة:
١- دراسة مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية .
بامر من الشيخ ابن باز رحمه الله وقد شارك في هذه الدراسة مجموعة من علماء الشرع وعلماء الفلك.
وقد توصلت الدراسة الى ان بداية الفجر الصادق ينضبط باستخدام المعيار الفلكي عندما تكون الشمس تحت الافق بمقدار 14.6درجة قوسية وانحراف معياري بمقدار 0.3 درجة قوسية.
وان اقرب التقاويم للفجر الصادق هو تقويم الجمعية الاسلامية الامريكية الذي يعتمد على زاوية (15)درجة.
٢- اطروحة دكتوراه لنبيل يوسف حسنين مقدمة في كلية العلوم بجامعة الازهر عام 1988 بعنوان : (دراسة الشفق لتحقيق اوقات الصلاة ورؤية الهلال).
وتوصلت الدراسة الى ان صلاة الفجر تجب حين يكون انخفاض الشمس تحت الافق المتوسط في حدود : (14.5) درجة.
٣- دراسة المعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية التابع لوزارة التعليم العالى والبحث العلمى
في مصر ،في عدة رحلات بدءاً من أغسطس 2015 وحتى أبريل 2016، وشارك فى هذه الرحلات إلى جانب أعضاء هيئة البحوث بالمعهد عدد من أعضاء هيئة التدريس من أقسام الفلك بجامعات القاهرة والأزهر وحلوان.
خلاصة هذه الرحلات أظهرت أن ميقات صلاة الفجر يحين عندما تكون زاوية انخفاض الشمس تحت الأفق 14.6 درجة، وليس 19.5.
وقد قام مدير المعهد بارسال نسخة من نتائج الدراسة الى الهيئة العامة للمساحة مطالبا بتعديل وقت صلاة الفجر.
وللتذكير : فإن اول تقويم تم اعتماده في العالم الاسلامي -وقامت التقاويم الاخرى بالسير على منواله - هو تقويم هيئة المساحة المصرية وقد تم اعتماده بناء على شهادة باحثين أجنبيين كافرين سنة 1908 ورصدا الفجر في الشتاء فقط وفي منطقة اسوان وحدها!!
****
ولكن اياك ان تغتر باتفاق هذه الدراسات على على الزاوية (14.5) فإن ذلك لا يعني بالضرورة ان حساب وقت الفجر من خلال زاوية انخفاض الشمس تحت الافق يأتي بنتيجة يقينية !
هناك حقيقة ينبغي الاعتراف بها وإظهارها للناس علانية..
وهي : ان الاعتماد على هذه التقاويم لا يستند على اي اسس شرعية او فلكية او حسابية ..بل هو امر غير منضبط يقوم على الخرص والظن والتخمين!
وبيان ذلك يتضح من عدة اوجه :
الوجه الاول :
ان ضوء الفجر سواء كان الفجر الصادق او الكاذب ليس هو شعاع الشمس المباشر، فالشمس قبل الفجر مازالت تحت الافق بل هو انعكاس سقوط اشعة الشمس على الغلاف الجوي ؛ والجسيمات الموجودة في الغلاف الجوي من ذرات وبخار ورطوبة وغبار هي التي تعكس اشعة الشمس على الافق ، وهذا الانعكاس يتأثر بمستوى كثافة الغلاف الجوي فكلما زادت الكثافة كان الانعكاس اقوى.
وكثافة الغلاف الجوي متغيرة بحسب الزمان والمكان والظروف.
اذن فضوء الفجر يتحكم فيه امران :
١- زاوية انخفاض الشمس تحت الافق.
٢- كثافة الغلاف الجوي.
الفلكيون يمكنهم حساب زاوية انخفاض الشمس تحت الافق وضبطها بالتوقيت لانها تابعة لحركة الشمس المضبوطة بالتوقيت.
لكن لا يمكنهم حساب درجة الكثافة والتنبؤ بدرجة تغيرها.
اذا تعلق الامر بحركة الشمس فقط يمكن الاعتماد على الحساب الفلكي الدقيق لان حركة الشمس منتظمة.
ولهذا فإن وقت شروق الشمس ووقت وغروبها مسالة محسومة فلكيا لا خلاف فيها لانها تعتمد على حركة الشمس.
بخلاف ظهور الفجر ومغيب الشفق فلن تجد لهما موعدا زمنيا محددا لانهما يتأثران بكثافة الغلاف الجوي الغير منضبطة.
ولهذا يظهر وقت الدرجة في خطوط العرض ثابتا ومحددا بدقيقتين في كل الاحوال لانه تابع لحركة الشمس المنضبطة.
وقد اشار الى هذا شيخ الاسلام ابن تيمية وقال منتقدا الفلكيين الذين لم ينتبهوا الى هذا الفرق :
(ولم يعرفوا الفرق بين طلوع الشمس وغروبها وبين طلوع شعاعها فإن الشمس تتحرك في الفلك فحركتها تابعة للفلك والشعاع هو بحسب ما يحمله وينعكس عليه من الهواء والابخرة وهذا امر له سبب ارضي ليس مثل حركة الفلك ولهذا كان ما قالوه بالقياس الفاسد امرا يخالف الحس )...
ثم قال مبينا تاثير اختلاف الفصول على ظهور الفجر والعشاء :
(ففي الشتاء تكون الابخرة في الليل كثيفة لكثرة ما يتصعد من الارض بسبب رطوبتها ولا يحلل البخار فيها فينعكس الشعاع عليه فيظهر الفجر حينئذ قبل ما يظهر لو لم يكن بخار
وأما الصيف فإن الشمس بالنهار تحلل البخار فإذا غربت الشمس لم يكن للشعاع التابع لها بخار يرده فتطول في الصيف حصة العشاء بهذا السبب
وتطول في الشتاء حصة الفجر بهذا السبب وفي الصيف تقصر حصة الفجر لتأخر ظهور الشعاع اذ لا بخار يرده لان الرطوبات في الصيف قليلة
وتكثر حصة العشاء في نهار الشتاء لكثرة الابخرة في الشتاء
فحاصله ان كلا من الحصتين تتبع ما قبلها في الطول والقصر بسبب البخار لا بسبب فلكي)الرد على المنطقيين ص : ٢٦٦.
وفي هذا دليل على انه لا يمكن تحديد وقت طلوع الفجر اعتمادا على الحساب الفلكي .
الوجه الثاني :
كما ان الفلكيين المعاصرين من اصحاب التقاويم اختلفوا في تحديد الزاوية التي يظهر عندها الفجر .
فقد اختلف في ذلك ايضا الفلكيون القدماء الذين حاولوا معرفة وقت طلوع الفجر بهذه الطريقة .
يقول الفلكي الكبير والموقت للجامع الاموي ابن الشاطر (ت: 777)في زيجه الكبير الباب الثامن والثلاثون في معرفة طلوع الفجر ومغيب الشفق :
(اعرف الدائر لنظير جزء الشمس على ان الارتفاع يط (اي : 19)درجة في الفجر ؛ وفي الشفق يز (أي : 17) ، فما كان فهو الحصة لكل واحد منهما.
هذا هو الذي وقع عليه القياس وعند ابي علي المراكشي : ك(اي : 20) وَ يو (أي : 16)؛ وعند غالب الأقدمين يح ( أي : 18) والاول اصح منهما.) انتهى.
ومن قدامى الفلكيين الذين رجحوا اعتماد الزاوية ( 18) : البتّاني (ت:317)، وابو الحسن الصوفي (ت :376)،والبيروني(ت: 440)،وابن الزرقاله (ت: 493)، ونصير الدين الطوسى (ت: 672).
ومن الذين رجحوا اعتماد الزاوية (19): المرديني(ت: 806) والوزكاني والبنتيتي وابن الرقام( ت: 685) وعمر بن علي المراكشي (ت: 660).
واذا كان القدماء والمعاصرون من الفلكيين اختلفوا في تحديد الزاوية التي يظهر عندها الفجر..
فكيف نترك المشاهدة اليقينية ونعتمد على تخرص واوهام غير يقينية ؟
الوجه الثالث :
ان الفقهاء قديما لم يقبلوا هذه الطريقة في تحديد الفجر ولم يقروا بها ولم يعتمدوا عليها او يذكروها في كتبهم بل انتقدوها وبينوا ما فيها من خلل.
ومن ذلك قول القرافي :
(جرت عادة المؤذنين وأرباب المواقيت بتيسير درج الفلك فإذا شاهدوا المتوسط من درج الفلك أو غيرها من درج الفلك الذي يقتضي أن درجة الشمس قربت من الأفق قربا يقتضي أن الفجر طلع أمروا الناس بالصلاة والصوم مع أن الأفق يكون صاحيا لا يخفى فيه طلوع الفجر لو طلع ، ومع ذلك فلا يجد الإنسان للفجر أثرا ألبتة ، وهذا لا يجوز فإن الله تعالى إنما نصب سبب وجوب للصلاة ظهور الفجر فوق الأفق ، ولم يظهر فلا تجوز الصلاة حينئذ فإنه إيقاع للصلاة قبل وقتها وبدون سببها ،) انتهى من الفروق للقرافي ج٢/ص ١٨٤.
ولا بد لنا من وقفة مع الفقهاء المعاصرين الذين اباحوا للناس العمل بهذه التقاويم وجعلوهم ينصرفون عن النظر في علامات اوقات الصلاة ومعاينة دخولها الى تقليد هذه التقاويم المجهولة وغير المنضبطة ..
على اي شيء كانوا يعتمدون ؟
ان معرفة الوقت بالمشاهدة امر ميسور ومتاح لكل أحد ، وهو عبادة نؤجر عليها كما نؤجر على المشي الى المساجد ..فلماذا نفرط في هذه العبادة ونقضي عليها ؟
خلاصة القول : انه ينبغي الاعتماد في تحديد وقت الفجر على الرؤية المباشرة ، ولا يلتفت الى التقويم الا من باب الاستئناس بعد الرؤية والمباشرة.
والذمة لا تبرأ الا بمحقق .
اذا تمت مراعاة الوقت الذي يزول به الشك وهو ما يقارب نصف ساعة فهذا يحل الاشكال.
واذا تم الاعتماد على تقويم الجمعية الاسلامية الامريكية الذي يعتمد الزاوية (15) فهذا صالح للاستئناس.
والذي اردنا التنبيه عليه هو ان هذه التقاويم قد تقترب من الوقت الصحيح وقد تبتعد عنه ؛ ولكنها لا يمكن ان تكون دقيقة الا من باب الصدفة !!!
وبعض الناس يشكو من مشكلة الاضاءة الكهربائية التي تمنع من رؤية الفجر.
ومسالة الاضاءة قديمة ولم تكن تمنع الناس من مراقبة الفجر ..
وقد كانوا قديما يشكون من صعوبة ملاحظة الفجر في الايام المقمرة
وفي ذلك يقول المثل الشعبي : ( ثلاثة ما يقرّش اعليها : صبح الكَمْرَه ، ودين لمْره ؛ وتكْراب البكره).
واذا تعود الناس على مراقبة الفجر مع وجود الانارة فقد يكتسبون دربة تخفف من درجة اللبس .
والمهم في هذا الامر ان زوال الشك في دخول الوقت شرط لصحة الصلاة .
وان هذه التقاويم لا يزول بها الشك