نحن الآن أمام إحدى وقفات التاريخ ، ليصدر أحكامه على ماضي الشعوب وحاضرها بل ويخشى على مستقبلها.
وهنا تقف تلك الشعوب (الغرب ) وقفة ندم وحيرة وتطلعا للمستقبل ؛ فبعد أن تخلت عن الدين وتعاليمه ، في كل مراحله التاريخية ، من تحريف الكلم عن مواضعه وحقائقه إلى قتل أنبيائه ، إلى أن تولت بأركانها العسكرية تاركة الدين وراء ظهرها ، تنادي بفصله عن باقي أجزائه في سائر المعاملات الدنيوية ، التي لا تستقيم دون تعاليمه ، اقتصاديا واجتماعيا .
وبعد أن ظهر الفساد في القيم والأخلاق ، في كل مفاصل حياة تلك الشعوب، حينها أطلق المتخصصون الاجتماعيون والنفسيون الغربيون ، صرخات تنادي بطرح مبادئ ونظريات جديدة لتدارك ذلك الفساد ، سواء ما ظهر من انحلال خلقي بسبب تشرد الأطفال عند فرز المشاعية الآثمة ومخاطرها ، أو ما ينشأ عن التبني المحرم شرعا ، من صدمات تمزق مفهوم الأسرة ، و تفتك بالمجتمعات ، أو ما نتج من تدهور اقتصادي، تسبب في التكالب على مقدرات الشعوب الأخرى ، واحتلال أراضيها واستنزاف ثرواتها وتدميرها، و تقتيل ساكنيها، بتلك الآلة العسكرية التي أنشئت لذلك الغرض نفسه ، بل وتحريم صنعها على الغير؛ كسابقة ،ماسبقهم بها من قبلهم من الشعوب الظالمة .
فهل استحالت فكرة ذلك الاحتلال التدميري دون خسائر ، حتى استبدلت بمحاولة مسعى؛ روحي سلالي ، لولادة منحى استعماري جديد ؟
وهل استخدام السلالة الدينية ، والدين منها براء ، يمكن أن يقبل به ذووا العقول السليمة ؟
فالنصوص الدينية ترفض تلك الفكرة ، وأصحاب الدين يرفضونها لمخالفتها لتلك النصوص .
فالدين يرفض أن ينال الظالمين عهده ، مخافة استخدامه ذريعة لقهر الآخرين وظلمهم ،كما ورد في القرآن الكريم ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) . البقرة ، الآية : ١٢٠.
كما يتم رفضها أيضا لمخالفة أصحابها لتلك النصوص الدينية .
فكيف يتفق المسلمون مع من يختلف معهم في معتقداتهم ، النصية، بأن الله تعالى لم يلد ولم يولد ولم تكن له صاحبة ، كما ورد في القرآن الكريم ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد ). الإخلاص : الآية : ١ ،٢ ، ٣، ٤ .
وماتقوله اليهود والنصاري من مخالفة ذلك كما ورد في الآية الكريمة في قوله تعالى (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ..)
وكيف يتفق المسلمون مع من ءامنوا بكتابهم كله ، ولم يؤمن بكتابهم ؟
يقول المولى جل جلاله ( هَٰٓأَنتُمْ أُوْلَآءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَٰبِ كُلِّهِ ...). سورة آل عمران ، الآية : ١١٩.
ثم كيف يتفقون مع من يخالف جميع الرسالات السماوية وما ورد في نصوصها من النهي عن الظلم ، والأمر بالدفاع عن المظلوم المدافع عن نفسه ، وأرضه وماله ، ومقدساته ، كما ورد نصا في القرآن الكريم ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويٌقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .). التوبة ، الآية ١١١.
فكيف تقاتلون أهل القدس الشريف وما حوله من الأراضي الفلسطينية المباركة، والله ينهاكم عن الظلم ويأبى أن ينال الظالمون عهده .
وكيف تخرجون أصحاب الأرض من بيوتهم ، والله ينهاكم عن ذلك في قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من يارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ). البقرة ، الآية : ٨٤ ، ٨٥ .
وكذلك فإن ربنا جل ثناؤه يأمركم أن تصلحوا بين طائفتين من المؤمنين تتقاتل ، وفي حالة بغي إحداهما على الأخرى ، يأمركم أن تقاتلوا من بغت منهما ، حتى ترجع عن بغيها، وظلمها.
وذلك في قوله :( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ). الحجرات ، ٩.
أين أنتم من الإسلام، ملة نبينا إبراهيم عليه السلام وتعاليمها السمحة العادلة ، في الآية الكريمة ( قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من من المشركين ) . الأنعام ، ١٦١. أين أنتم من تطبيقاتها العلمية والعملية.
ليس اتباع نبينا إبراهيم عليه السلام ، مجرد تحريف مصطلح الرسالات السماوية ( الإسلام ) كما حرفت التوراة وتعاليمها إذ حرف، وأخفي أغلبها ، كما ورد في القرآن الكريم ( قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا ...). الأنعام ، ٩٢.
فتحريف الرسلات وإخفاؤها ، ليس حلا ، فهي منزلة من لدن حكيم عليم بتشريع يراعي مصالح العباد زمانيا ومكانيا .
ولذلك فقد جاء الدين الإسلامي خاتما للرسالات السماوية ومهيمنا عليها ؛ فهو تشريع متكامل شامل لمصالح كل البشر والأزمان والأماكن ، مخاطبا لكافة الناس .
وقد ورد الخطاب في القرآن الكريم موجه إليكم أهل الكتب السماوية ( يَٰٓأَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ ۚ قَدْ جَآءَكُم مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَٰبٌ مُّبِينٌ... ). المائدة ، ١٥.
فلو كان تحريف الكتب والابتعاد عن تعاليمها ؛ حلا ، لما كانت عصور الانحطاط المظلمة ، وما تحمله من خرافات ذابلة ، نتيجة تحريف تلك الكتب والازدراء بتعاليمها .
والآن جاءت أكبر التحريفات الدينية، لدين الإسلام ، (دينا قيما ملة إبراهيم ...) ، دين القيم المهيمن على باقي الرسالات السماوية .
إن هذا التوجه الإبراهيمي مجرد خرص وهمي يسعى لقيام احتلال آمن؛ تحت مصطلح ديني جديد في ثوب روحي مزعوم ، محاولة لإرباك وتشويش الفكر ، لما يحمله من تناقض ممنهج لتضليل بعض ضعفاء العقول المضلين ، عن حقائق ذلك الاحتلال البغيض.