من وحي حرب أوكرانيا.
1- إن العالَمَ الحديث هو عالمُ الانفصالِ بامتياز.
كان الفيلسوف السياسي الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل يطلب من الدولة أن ترحب باقليم ازواد وتتخذ معه ما اتخذته روسيا مع جزيرة القرم. لكن الساسة كانوا أضعف من أن يفهموا تلميحات الرجل وتصريحاته عندما كانت اللحظة مواتية خاصة مع توغل الجيش الموريتاني في الشمال المالي مئات الكيلومترات.
لم تُفلح الأمم المتحدة ولا الأحلاف الدولية الكبرى في وَقفِ حقيقة التشظي المعاصرة للدول، لا سيما كبيرة المساحة منها.
إنّ أية مساحةٍ تتجاوزُ المليون كلم2 هي مساجة كبيرة بدون شك. لذلك يجبُ الحذر.
2- شهد التاريخ الحديث الكثير من عمليات الانفصال التي كانت سببا في سعادة واستقلال المجموعات المغبونة غالبا وفي شقائهم نادرا. الأقاليم الأوكرانية مثالا على ذلك (القرم، دونيتسك، لوگانسك).
3- كانت فلسفة "هيغل" حول نهاية التاريخ مجرد "يوتيبيا" حالِمة، لم تمت الصراعات ولم تسُد ثقافة واحدة تمنع من دعوات الاختلاف وحقيقته.
4- كان الفيلسوف "يوهان غوتليب فيشته" شيخ هيغل وأستاذه، و كان مُنَظِّرَ قومية فائق الذكاء.
قامت ألمانيا الحديثة بل كل دول أوروبا التقليدية على الأسس التي وضعها "فيشته" حول مميزات "النحن" و "الهم".
5- بدأ القرن العشرين بمحاولات الانفصال الكثيرة من قِبَل المستعمرات ضد دول الاحتلال ثم جائت الحرب العالمية الأولى مكرسة مزيدا من الانفصال، انفصلت أغلب الدول عن الامبراطورية العثمانية. جائت الحرب العالمية الثانية بنفس سياسة الفصل التي انتهت بفصل ألمانيا الشرقية عن الغربية. توالت عمليات الانفصال طيلة القرن العشرين ليشهد العقد الثاني من القرن 21 مزيدا من دعوات الانفصال ووقوعه، نحن نشاهد انحلال الروابط التكتلية الكبرى في العالم، البريكسيت، اليمين في هولندا وألمانيا الداعين إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي...الخ، سعيُ الأزواديين وغيرهم...
6- لا توجد وَصْفات فلسفية جاهزة ولا فكرية ولا حتى وصفات سياسية للانفصال، ذلك أن الانفصال من الأمور القليلة التي يكاد التطبيق فيها يسبق النظرية أو هو يسايرها بشكل فوري. لكن ما ثبت تاريخيا هو أن النخبة هي التي تقوم بالتنظير من زاويتين: تنظيرٌ عن وجاهة الانفصال وضرورته، وتنظيرٌ آخر يتعلق بإقناع الجماهير لترفع شعارات المطالبة، هناك تنظير ثالث عليها أحيانا القيام به إذا اقتضى الأمر وهو يتعلق بإقناع المُتَبَنِّينَ للفكرة من مختلف القوى والقوات بضرورة التحرك الفوري.
7- قامت الدول الحديثة بتشديد الأحكام على دعاة الانفصال لسبب واضح جدا وهو أن الانفصال لا يطالب به إلا أصحاب الثروات المظلومين والمغبونين، لذلك نجد الدولة الحديثة تتحدث كثيرا عن رفض الانفصال الذي تعتبره خطرا يتهدد الأمة، والحقيقة أنه لا يهدد إلا الرابحين من الوحدة وحدهم الذين يعرفون أنهم يهضمون حقوق دعاة الفصل.
8- ليست الدولة الحديثة هي من يصدر القوانين التي تعاقب دعاة الفصل بأشد العقوبات، إن من يُصْدِرُ تلك القوانين هي جماعات معينة تستفيد من بقاء الحال ثابتا ضمن حدودٍ معينة.
9- يبقى التاريخ الحي شاهدا على كذب دعاة الوصل الذين يحذرون دعاة الفصل قائلين إن الفصل ليس في صالح أحد، والحقيقة أنه في صالح المنهوبين دائما الذين أثبت واقع العالم أن الفصل هو طريقهم الحقيقي نحو الاستفادة من ثرواتهم.
10- إن البلدان كبيرة المساحة وقليلة السكان قلما يمكنها التقدم والتنمية، ولذلك كان الفصل يمثل علامة في الاتجاه الصحيح.
11- إن المساحة الشاسعة تعادل حجمها نفقةً عليها ولذلك فهي عامل تدهور للدولة.
12- في بداية الحرب الباردة تنبأ بعض الاستراتيجيين الأمريكيين بحتمية هزيمة الاتحاد السوفييتي انطلاقا من نظرية "المساحة"، وبالفعل فقد تمت هزيمةة الاتحاد السوفييتي انطلاق من كبر مساحته حيث تشظت هذه إلى عشرات الدول معلنة نهاية الحرب الباردة. نفس هذه النظرية صدقت في توقعها لانهيار الدولة العثمانية بل وكانت سببا في تفكك الدولة العباسية قبل ذاك حيث تحس بعض الأطراف بالتهمش وتكبر لديها نزعة الانفصال، خاصة إذا كانت الدولة لديها إثنيات مختلفة ومتعددة أو تكتلات قبلية كبرى تتمركز في مواقع جغرافية محدَّدة.
13- انفصل جنوب السودان عن الشمال في ظرف شهور وجيزة عندما كانت الإرادة قوية فعادت غالبية الثروات له. تمكنت أقاليم الأكراد في العراق من الانفصال المعنوي الكبير حيث عادت إليها غالبية ثرواتها. انتزعت المعارضة السورية مناطق كبيرة من سوريا كعقاب للنظام على إقصاء بعض الأقاليم. انفصلت تيمور الشرقية عن اندنوسيا للتمتع باستقلاليتها الثقافية والاقتصادية. انفصلت باكستان عن الهند لتصبح إحدى أهم الدول في عالم اليوم. انفصلت البوسنة عن صربيا... الخ.
14- هناك سيناريو مغاير يجمع الفصل والوصل: تنفصل بعض المناطق عن دولة ما لتلتحق بدولة تربطها بها مميزات ثقافية واجتماعية أكبر، مثل انفصال شبه جزيرة القرم وألحَقَ نفسه بروسيا التي رحبت به كثيرا.
إن درس جمهورية القرم يقول إن الانفصال يكون أسهل دائما إذا كانت الجماعة الطامحة إليه تجد هواها موافقا لدولةٍ جارٍ يمكنها المساعدة أو يمكن إلحاق منطقة الفصل بها.
15- إقليم كازاماس يتقدم خطوات نحو الانفصال عن السنغال ليلتحق بغامبيا. شمال مالي يتقدم بخطوات ثابتة نحو الانفصال، تصاعدت الدعوات التي تريد إلحاقه بموريتانيا أو الجزائر،
16- إن آخر ما يتم تسجيله في هذا المجال هو انفصال بريطانيا العظمى عن الاتحاد الاوربي الذي امتهنها كثيرا، بريطانيا التي أنجبت بعض أعظم العقول الأوربية في التاريخ مثل نيوتن وداروين... بريطانيا التي تزخر بالكثير من الموارد العلمية والطبيعية.
خِتاماً:
إن الفصل يجد مبرره دائما لا سيما إن كان مبررا اقتصاديا يتعلق بالتهميش والغبن لمناطق ذات ثروات هائلة. إن الفصل على أسس مناطقية - ثقافية - اقتصادية - جهوية - يبقى دائما إمكانية واقعية إذا توفرت شروطها لجماعات معينة لتنفصل وتقيم دولا مزدهرة أو تلتحق بدول أقوى من دولتها الحالية. لذلك ينبغي دائما الاعتناء بحثوق الأقليات ذات المناطق المحتوية على الثروات الهائلة.
