كيف نفهم الإسلام .. الديمقراطية (3) / محمدّو بن البار

وصلنا في هذا الموضوع في المقال الماضي إلى أهم الدعائم التي يعتمد عليها من يسمون أنفسهم بالمجددين ألا وهو المقاصد الشرعية.
وهنا أنبه أن معني كلمة المقاصد الشرعية عندها دلالات يجب مراعاتها، وهي أنها مقاصد شرعية وليست مقاصد بشرية.
وبهذا المعني ينفصل الإسلام فصلا تلقائيا عن الديمقراطية لأن المقاصد البشرية لا رصيد لها في التفكير عند عرض فكرتها علي المجتمع المسلم لعدم انطلاقها من قلب يؤمن بالآخرة أو هكذا هو المفروض.
أما المقاصد التي تنعت بالشرعية فمعناها أن المشرع بها سواء كان عالما أو مفكرا لا بد أن يبدأ بتعريف الإسلام أولا وجميع حيثياته أي ثوابته التي تتماشي مع مراعاة خصوصيته: هل هذا مكان النظر إلي اليسر والتخفيف أم مكان العزة والأخذ بالعزيمة.
فهذه الخصوصية ثابته في مكانها يقاس عليها فيه ولاسيما إذا كان هناك نص من الوحيين من غير التوسع في استعمال ذلك النص ليخرج من المقاصد الشرعية إلي المقاصد البشرية، لأن النص تركه الله مقروءا بدون نسخ ومن غير نسيان ويدخل تحت معني هذه النصوص أكثر مستجدات الأحداث التي عمد إليها المجددون وسحبوها معهم ليدخلوها في المقاصد الشرعية مع بقائها بأفكار البشر من ما يسبب إلباس الحق بالباطل، فهي نفسها تفكير بشري وتأويلها من طرف المفكرين أنها مقاصد شرعية لا يرفعها تلقائيا عن التفكير البشري، فالمجددون لا آلة لهم شرعية إلا قيساها بقواعد الشرع وهذا قياس مع الفارق، فالقياس علي قواعد الشرع داخل فيه اعتقاد المؤاخذة علي الامتثال والاجتناب مثل قضية تعيين الخليفة للمسلمين إذا لم يكن تحريف الكلم عن مواضعه فهو تحريف لمقصد الشارع إلي المقصد البشري، أي التشريع كله بما فيها الخلافة الأعلي والمتفرعة عنها وكذلك مثل قضية مبدأ الرق والحريات العامة والمرأة وحقوق الإنسان والميراث وزاج المسلمات بالكتابيين إلي آخره.
كل هذه الأشياء جاءت الديمقراطية واقترحت معاملة لها مبينة علي الاجتهاد البشري المحض الذي لا يفكر في السؤال عنها أمام الله، وكأن الإسلام لم يضع لها تشريعا مفصلا ومع ذلك هو خالقها ورازقها ويميتها ويحييها وهو أعلم بها: {{ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}}.
وبعد أن اكتمل تشريعها عندهم المبتور عن التفكير في الآخرة، يدخل المجددون علي خط هذا التشريع وبدلا من أن يجروه إلي المقاصد الإسلامية التي سوف يجد فيها أمامه أوامر الله ونواهيه وجزاؤه وعقابه الأخرويين الذين هما أكثر سبب لامتثال التشريع من حيث هو يقومون بجر المقاصد الشرعية إلي الديمقراطية ويسمونها بهذا الاسم المنزوع منه قضية الأجر أو المؤاخذة فيدخلون هذه المقاصد الشرعية في جوف المقاصد البشرية، وكأن شيئا لم يفتقد من التشريع الإسلامي، والحقيقة أن المفقود أن أساس المقصود بالتشريع هو قضية الامتثال لما يترتب عليه منها وهو أصعبه علي الإنسان ساعة وقوفه بين يدي الله والسؤال عن الامتثال، ولذلك دائما يذكر الله عباده بهذا الموقف يقول تعالي: {{من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت}}، ولا أدل علي أن هذا اللقاء يبدأ من ساعة الموت من هذه الآية، ولا شيء أٌقرب للإنسان من الموت ا لتي لا وقت محدد لها.
فالخلافة عن الله في الأحكام ليست مثل الخلافة عند البشر، فالحكم الشرعي جزء من الدين، والدين قد أكمله الله بالنص يقول تعالي عن كمال الدين :{{اليوم أكملت لكم دينكم}} ويقول من جهة الحكم بعد الخلافة الأولي لأبينا آدم عليه السلام والتي هي قصد الشارع من تكوينيه وهو خلافته في الأرض هو وأبناؤه من بعده :{{يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}} إلي آخر الآية.
ولذا فهم الفقهاء الذين هذا وصفهم وهو أعم من العلماء والمفكرين أن من تصدر منه الأحكام وينفذها يكون بذلك موقعا عن الله، ولذا جعل الفقيه ابن القيم هذه الخصوصية عنوانا لكتاب استوفى فيه البحث عن صحة ذلك وسماه : "الموقعون عن الله".
فالخليفة عن الله إذا لم يجد نصا ظاهرا من الوحيين لا يعود إلي فكره المحض بل يعود إلي قواعد الشرع الثابتة في نصوصه، وإذا تفرعت تفرعت منه أي من جميع مقاصده.
ومقاصد الشرع لا تعني الآيات التي يسردها المجددون في طلب اليسر وإزالة الضرر وعدم العنت إلي آخره فقط.
فالقرآن الذي هو أساس مقاصد التشريع متعلق بكل حياة الإنسان بمعني أنه هو والديمقراطية يلتقيان في التحكم في جميع البشر، فالديمقراطية ينتهي لقاءها مع الإنسان عند انتهاء حياته، والقرآن يذهب مع الإنسان إلي قبره ومحشره ووقوفه بين يدي خالقه.
وعندما كان القرآن ينزل نزل فيه بناء أمة متكاملا وليس بناء من يحتاج إلي التسيير ورفع الحرج إلي آخره.
بل جاء فيه وفي فعل الرسول صلي الله عليه وسلم ما يدعو إلي العزة والعلو وإظهار الشجاعة والاكتفاء الذاتي في كل شيء يقول تعالي في شأن عمل الحاكم أي الخليفة: {{الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر}}، والعمل بهذا هو الذي يترتب عليه قوله تعالي: {{يا أيها الذين أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}} فأي حاكم توفر فيه شرط الله وهو التمكين في الأرض ولم يقم بأوامر الله فاسمه المنتحر عند أول لقاء مع الله، ولا ينفعه تأويلات المجددين.
فضمير الإيمان هنا معتبر أي هو الذي يترتب عليه الطاعة فهو الجامع بين المطاع اسم المفعول والمطيع اسم الفاعل.
فإذا كان الخليفة لا يشعر بأن الإسلام هو الذي أتي به وإنما أتت به نتائج هذه الانتخابات المؤسسة علي غير مقاصد الإسلام فكيف يقوم المجددون بإدخال هذا التشريع في جوف الإسلام ليترتب علي امتثالها ما يترتب علي من جاء به الإسلام للخلافة وأوجب طاعته مع أن مشرعها ومفصل قوانينها لا يستند في كل ذلك إلي مقاصد الشريعة.
فالإسلام مستقل بعزته {{ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}} ومستقل بسموه {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}} وبشجاعته واستقلاله {{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله}} ويقول تعالي:{{الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم}} إلي آخر الآيات.
فهل في الإسلام ترك العزة أو خفضها عندما تحضر المغالبة بينها وغيرها ليكون الذل والخنوع للغير؟
وهل يجوز عدم الاستجابة لله إذا كان الوقت وقت تضحية يكون بدلها تولية الأدبار لأن الله يقول {{ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة}}؟
فالإسلام لم يكن في يوم من الأيام أرضا جافة بوارا لا حمي لها يأتيه الفلاح بآلته يريد الانتفاع منها من غير إذن له ويدخل إليه من غير مداخله.
ففلاح الأحكام الإسلامية عندما يأتي بآلته الفكرية الأصولية والمقاصدية وقواعده الفقهية فعليه أن يعلم أن مداخل التشريع هذه كانت أمامه في الإسلام ولكن ليست من فكر البشر ولكنها مما أنزلها خالق البشر وتبليغ خاتم الأنبياء خبر ما بين المدر والحجر.
فالمقاصد الشرعية جاءت لينتفع بها كل إنسان بمفرده لأنها داخلة في بناء الأمة الإسلامية وتأسيسها، فبناء الأمة الذي يشملها هو ما تركها عليه محمد صلي الله عليه وسلم من عزة ورفعة وإباء فذلك هو المقصد الشرعي والقواعد الفقهية الثابتة.
يقول تعالي:{ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد  عذابهما طائفة من المؤمنين}}
فهذه الطائفة عليها ألا تكون حاملة لمقاصد البشر من الحكم باليسر وإزالة الضرر إلي آخره، وهناك كثيرمن الأمثلة الخاصة بمقاصد القرآن التي جاءت في الإسلام سنتعرض لها بإذن الله في الحلقة القادمة كيف نفهم الإسلام (18) الديمقراطية (4)

 

10. مارس 2022 - 14:30

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا