مدخل : يرى المازني أن من أجمل "السيفيات" التي امتدح فيها المتنبئ سيف الدولة، هي الرائية التي استعرض فيها المتنبئ أحداث حملة الحمداني على بني كعب بعد تحرشهم المتكرر بإمارته والتي استهلها بقوله :
طوال قنا تطاعنها قصار .. وقطرك في وغى وندى بحار
وفيك إذا جنى الجاني أناة .. تظن كرامة وهي احتقار
**
المقال : من المستحيل أن يكون الحكم على الأشياء عادلا حين يصدر عن من يعيش بمعزل تام عن عوالم المحكوم عليه، فمحاكمة الماضي بمعايير الحاضر شطط، ومحاكمة القمة بمعايير القاعدة لن تسلم أبدا من الحيف، ومن يرى الأمور من الداخل ليس كمن يراها من الخارج، وحين تصدر الأحكام من أحد الطرفين في الآخر؛ فإننا ندخل في دروب التجاوز ومجانبة العدالة.
وفي عوالم اليوم والتي تتصدر الشعبوية جزءا كبيرا من أسلحتها الدعائية؛ من الصعب أن نجد حكما عادلا ومبنيا على أسس يمكن أن يشكل مرجعا لتبني المواقف، فأحكام القاعدة العريضة على القمة عادة ما تتحكم فيها المزاجية وضعف الأسس، والهلوسة التي ضربت الشارع، كمضاعفات لحالة الثمول التي أعقبت الربيع العربي، وتحكُم ثورة المعلومات في الحدث.
ثم إن تحكم الموروث في العقلية الشعبية وحملات المفاضلة بين الماضي المحسوس والواقع المعيش تلقي بظلالها غالبا في تحليل الأحداث، ولا يختصر الأمر على القاعدة في هذه الناحية، بل إن للنخبة المحلية نصيب الأسد من ذلك مهما تحلل الفرد وتجرد من ميراث الوهم المسيطر.
لذلك فإن جميع الأحكام الجاهزة التي صدرت في أعقاب أحداث "ربينة العطاي" لم تخلو في مجملها من أعراض المؤثرات المذكورة؛ رغم وجاهة تلك الأحكام في نظر أصحابها؛ ورغم التعجل والمزاجية والمواقف المبيتة والحملات المغرضة.
فنحن مثلا لو نظرنا إلى الموقف الحكومي بتجرد، فإننا نجد الخروج من الأزمة بأقل خسارة كمن يبحث عن إبرة في كومة قش، فلا الحرب خيار استراتيجي، ولا الإغلاق وتجويع الشعب المالي حل أخلاقي، ولا التفريط في أرواح المواطنين ومملتكاتهم حل سيادي، وبالتالي فقد كان البحث عن الحل المرضي يحتاج التروي والتكتيك العبقري والخبرة والتفكير ببرودة أعصاب.
**
حينما استفحل أمر البرامكة وأحكموا سيطرتهم على الخلافة، وأصبحوا يشكلون أكبر خطر على استمرار الخلافة العربية العباسية، لم يتعامل الخليفة هارون مع الأمر باستعجال وترك لهم الحبل على الغارب، وبدأ التخطيط لعزلهم بتروي وسرية وأناة حتى دقت ساعة الصفر ليعالج الإشكال الكبير في ظلمة ليلة واحدة انبلج فجرها عن صباح عباسي خال من أي وجود برمكي.
**
وفي سرية تامة وأعصاب واثقة استطاع الرئيس غزواني معالجة أحداث "ربينة العطاي" بحنكة قل لها نظير في عصرنا، فلم يساهم في قرار "إيكواس" المدفوع بضغط فرنسي، ولم يفرط في دماء أبناءه، ولم يضع رجله في الحفرة التي حفرها له أصحاب الأغراض الخبيثة، وبالتالي يمكننا الحكم -حتى الآن- أن بلادنا عالجت الأمر بطريقة غير تقليدية.
فالنقاط الخمسة التي اتفقت عليها بلادنا مع الوفد المالي شكلت صدمة لمن خططوا لدحرجة بلادنا في بئر الحروب الآسنة، والخروج من المأزق لم يكن ليتحقق لولا الحكمة والحنكة والتروي الذي تمت به معالجة الملف، فضمان تأمين المواطنين وعدم الدخول في ورطة الحرب وتجويع الجار، لم يكن ليتحقق إلا من خلال رؤية متبصرة، وحنكة نادرة.
أما على الصعيد الإعلامي فرغم الحملات التي تم تنظيمها خلال الأسبوع الماضي، فإنه بمجرد الإعلان عن الاتفاق وإرسال الوفد رفيع المستوى إلى المناطق الحدودية، أصبح عمل أسبوع من الحملات الممنهجة كرماد في مهب الريح، وبالتالي فإن أقل مايوصف به الأمر أنه "ضربة معلم".
وختاما فإنه من إيجابيات حكمنا الحالي، هو الانصات لصدى الإعلام الجمعي، لكن حينما يتعلق الأمر بالثوابت والأمور الحساسة، فإن التأثر بالحملات يجب أن يكون محدودا ومحدودا جدا، فكم من أصوات إعلامية تظهر حب الإصلاح، لكنها في الواقع مجرد شياطين أرسلت على الساسة لتأزهم أزّا.
**
للعبرة : جاء في الموروث الحساني (الكياسة أشبه من ارياسة).