لم تكن الحرب التي اندلعت قبل أيام في القارة العجوزهي السبب الوحيد الذي أصبحت أصداءه تتردد في كل مكان معلنة عن تغييرات عميقة في طبيعة النظام العالمي الراهن، ومجرى تاريخ البشرية، بل هناك أسباب أخرى أكثر تأثيرا على رأسها جائحة كورونا، والثورة الرقمية، والأزمة الاقتصادية العالمية، وغيرها من الأسباب التي باتت تدفع نحو عالم جديد قد يحدد الصراع على الطاقة والنفوذ المحتدم سيناريوهات معالمه الاقتصاية، وأبعاده الجيوسياسية المحتملة، والتي في اعتقادي أكثرها ترجيحا الثلاثة التالية:
(1)
إنقاذ أمريكا واستمرار القطبية الأحادية
السيناريو الأول أن تكون الحرب مخطط لها بدقة حتى لا أقول متفق عليها من أجل إنقاذ الاقتصاد الأمريكي، وبالتالي الاقتصاد العالمي، وهو ما يعني أيضا إنقاذ الإمبراطورية المالية التي إن تبخرت فجأة ستتبخر معها أحلام الجميع بمن فيهم الصين، وروسيا، والدول النفطية، فلا يختلف إثنان على أن الدولار والحرب وجهان لعملة واحدة، وسياسية طباعته لمكافة الوباء في أمريكا خلال السنتين الأخيرتين أدت إلى تآكل مصداقيته، وفاقمت من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، حيث باتت أمريكا تعاني من تضخم هوالأعلى منذ 40 عاماً، كما بلغ إجمالي دينها العام أكثر من 30 تريليون دولارا، وذلك للمرة الأولى له على الإطلاق، بالإضافة إلى انقسام عميق للمجتمع الأمريكي يهدد بانزلاق نحو حرب أهلية مدمرة. والحرب الأوكرانية الروسية من جهة أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة، وزيادة مبيعات الأسلحة، وبالتالي تعزيز قوة الدولار، ومن جهة أخرى أدت إلى موجة فراره من الأسواق الناشئة، ومن أوروبا، وهو ما يعكسه ارتفاعه بقوة مقابل باقي العملات الرئيسية خاصة اليورو، بل وصل الأمر إلى أنه حتى الذهب الملاذ الآمن أثناء الأزمات لم يستطع الصمود أمام تماسك الدولار، وتخلى عن مستوى ما فوق 2000 دولارا للأونصة، وفي اعتقادي ستزداد وتيرة موجة نزوح الدولارهذه كلما ازدادت الهالة الإعلامية الموجهة، التي يشارك فيها الجميع حتى السويسرا المحايدة، وأيضا كلما اقترب موعد رفع احتياطي الفيدرالي الأمريكي لمعدلات الفائدة الأساسية. عودة الدولار إلى وكره عكس جاذبية الأسواق العالمية كاشفا عن وجه الآخر (الأزمات والحروب) ظاهرة تتكررمنذ عقود، و ضحاياها كثر بدءا بأزمة ديون أمريكا اللاتينية، ومروارا بأزمة النمورالآسيوية، وأخيرا وليس آخرا الأزمة الأوكرانية التي باتت تظهر أن طريق العودة هذه المرة غير مفروشة بالورود والخارجين على بيت الطاعة كثر.هذا السيناريو قد يؤدي على المدى القريب إلى إبعاد شبح الحرب الأهلية عن أمريكا، فكلما زاد لهيبها في أوكرانيا كلما خبت شرارتها في الداخل الأمريكي، مما سيؤدي إلى استمرارية هيمنتها مع فاتورة اقتصادية وسياسية عالية جدا، أما على المدى المتوسط والبعيد فسيصبح العالم أكثر إجماعا وإصرارا على التخلص من الأحادية القطبية في أي فرصة قادمة.
(2)
دفع روسيا إلى أحضان الصين وتشكل الثنائية القطبية
أما السيناريو الثاني، فهو رهين تطورات الحرب، ومدى تدخل حلف شمال الأطلسي من أجل كبح جماح النفوذ الروسي والصيني المتزايد في القارة العجوز، وذلك عن طريق وضع الحواجز أمام قطارت طريق الحرير التي باتت تجوب أوروباغربا وشرقا، حيث أظهرت البيانات الصينية تسجيل أكثر من 15 ألف رحلة خلال العام المنصرم، وكذلك إضعاف الورقة الروسية أمن الطاقة، حيث وصل اعتماد الإتحاد الأوروبي على ورادات الطاقة روسية سنة 2019 إلى حوالي 47%، و 41%، و 27% من الفحم، والغاز، والنفط على التوالي، ولم يعد سرا سعي أمريكا الحثيث إلى كسرهيمنة الغاز الروسي على السوق الأوروبي واستبداله على المدى المتوسط، وهذا ما يبوا واضحا من زيادة صادراتها من الغاز المسال إلى أوروبا بنسبة 700% منذ بداية تصديرها له سنة 2016، وأصبحت بذلك أكبر مصدرله لأوروبا باستحواذها على 31% ، وكذلك استثماراتها وحلفائها الضخمة في الحقول العميقة قبالة السحوال الإفريقية، ومما يعزز من هذا السيناريو زيادة التفاهمات الروسية الصينية في أروقة الأمم المتحدة، وتعاملهما السريع مع إخماد النار في الحديقة الخلفية المشتركة ( التدخل الأخير في كازاخستان) ، ومساعدة أفغانسان بعد انسحاب أمريكا. هذا السيناريو الأقل حظا سيؤدي على المدى القريب إلى المزيد من التعبية الأوربية لأمريكا، ودفع روسيا بكل ما تملك من موارد طبيعية وقوة عسكرية إلى أحضان الصين، وربما تفككها مرة ثانية وتقسيمها من جديد، وبالتالي خلق الظروف الملائمة لحرب باردة قد تكون أكثر سخونة من السابقة بل قد يصل الأمر على المدى المتوسط إلى تلاشي نفوذ أمريكا في القارة الآسوية، وعلى المدى الأبعد إلى تقطيع أوصال العالم، وتشكل قطبين لا يجمع بينها إلا الكوب الذي يعيشان عليه.
(3)
تحجيم النفوذ الأمريكي وميلاد عالم متعدد الأقطاب
أما السيناريو الثالث الأكثر ترجيحا، فهو أن تؤدي الحرب إلى تشكيل القارة الأورو- آسيوية تجاريا وطاقويا، تحت ضغط قطارات طريق الحرير، التي جعلت من مجموعة الآسيان الشريك التجاري الأول للصين بدل الولايات المتحدة الأمريكية بحجم تبادل تجاري يقارب 880 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى تعزيز قبضة يد موسكو على سوق الطاقة الأوروبي، مما سيؤدي تدريجا إلى تعزيز إتحاد أوروبا، وتقليص تبعيتها لأمريكا، وبالتالي تحجيم نفوذها وعزلها بعيدا عن مركز الاقتصاد العالمي الجديد حيث تم اكتشافها على يد الأميرالمالي المسلم أبو بكر الثاني، بل قد يصل الأمر إلى تحويلها من إمبراطورية تكنولوجية ومالية إلى إمبروطورية موارد طبيعية وزراعية بعد عودة التكنولوجيا إلى حيث كانت قبل الحرب العالمية الثانية (أوربا ) ، ومما يعززمن هذا السيناريو مدى تباين المواقف الأوروبية نظرا لمدى اعتمادها على الطاقة الروسية، وكذلك الدورالمتزايد لبريطانيا على الساحة الدولية بعد إنسحابها من الإتحاد الأوروبي، وسعيها إلى استعادة هيمتها على مستعمراتها السابقة، بالإضافة إلى الحديث عن اتفاق بديل بين واشنطن وطهران حيال الملف النووي الإيراني، والرد الاستباقي الخليجي المتمثل في التلويح بنظام البترو- يوان بديلا عن البترو- دولار، وكذلك إعلان أوكرانيا عن استعدادها لمناقشة "وضع الحياد" خلال المفاضات الجارية، وسيؤدي هذا السيناريو في نهاية المطاف إلى ميلاد عالم متعدد الأقطاب (أمريكا والصين وأوروبا وروسيا.. إلخ)، كما ستلعب الدول الإقليمية دورا أكبر، وربما هذا هو السبب وراء التحركات المصرية السعودية الجزائرية التي نعول عليها آمالا كبيرة في عالمنا العربي والإسلامي الذي دفع الثمن الأكبر في خلق الظروف الملائمة لتشكل هذا العالم الجديد منذ 2001 .
إن تلمس مسارات ومآلات خروج العالم الجديد من عنق الزجاجة تفرض علينا التفكير مليا في مصير هذه اللعبة الجيوسياسية الكبرى التي خلطت كل الأوراق، وجعلت بلادنا أمام فرص وتحديات عديدة.