لا يجمع الناس على أمر ما أجمعوا على صعوبة قراءة ما يدور في خلد الرئيس الحالي. وقد بدا ذلك سريعا في بداية هذه المأمورية، في فترة انتظار تعيين أولى الحكومتين، حين خاض الرأي العام في مختلف التوقعات لتشكيل الحكومة، ولكن الصواب جانبها جميعا. وأذكر أن أحد المعارف لما ضجر حينها من قلة التسريبات الموثوق بها؛ نشر تشكيلة، أورد فيها نفسه كأحد الوزراء، فحظيت روايته على الأقل "بشهادة شاهد من أهلها"، عوضه الله خيرا.
مقصودي من هذا العنوان الكبير الإشارة إلى أن المتاح من الاستدلال بالقرائن، واستنطاق القليل المنشور من أحاديث الرئيس، والقراءة ما بين السطور لمختلف القرارات التي اتخذها؛ كل ذلك يتقوى ببعضه البعض ليجعل فهما معينا لمشروع الرئيس هو الراجح عندي، وهو الذي أحب أن أشاركه هنا مع القارئ الكريم.
ليس هم الرئيس، كما أفهم، هو الهم المألوف في سياقنا لدى المرشح الرئاسي التقليدي.
إن بإمكان الرئيس، لو أراد، أن يقصر همه على إنجاز جملة "التعهدات" التي أعرب عنها في برنامجه الانتخابي، ولا يجعل همه أكبر من ذلك. ثم يعمل بالتوازي مع ذلك على تقوية نظامه بكل الوسائل المتاحة له، ثم يترشح "لمأموريته" الأخرى، ليسير فيها على نفس نسق سابقتها، ثم يدخل في وضع التقاعد المريح الذي كان بإمكانه الدخول فيه بداية.
لقد كان بإمكانه ذلك بدون شك، وقد عايش أنظمة عديدة كان تفكيرها تقليديا على هذا النحو، ويعينها في ذلك أن جزءا كبيرا من الناخبين لا يرون أصلا أن بالإمكان أحسن مما كان. وهو يعلم أن التحالفات الانتخابية "لفاعلي المجتمع الأهلي" "وملاك المال المستثمر في السياسة" "والأطر الواقعيين جدا" ما زالت قابلة للتفعيل عند الحاجة، كما كانت.
إن هم الرئيس، بحسب مجموع القرائن الظاهرة، والله أعلم بما في الصدور، ليس كذلك؛ بل يتمثل في أنه لا يرضى لنفسه ولمن يريد حقا أن يعينه إلا أن يتجاوزوا جميعا التفكير التقليدي بكثير.
وفي بعض أحاديثه المنشورة إبان حملته الانتخابية يقسم الرئيس في مهرجان عام وفي اجتماع مع نخبة من الأطر أنه لم يترشح من أجل جاه ولا مال، ولكنه يظن أن بإمكانه أن يسهم إسهاما خاصا في نقل بلده من الوضع الذي هو فيه؛ لما له من تجربة طويلة راسخة في مختلف نواحي الشأن العام.
ولا يرضى الرئيس -فيما أفهم- بما دون نقلة جذرية لهذا البلد من خلال مشروع متكامل يعتمد على ديناميكة إصلاح شاملة ومتزامنة ذات أفق زمني متوسط المدى، بحيث لا تظل أسيرة للواقع وللمشاكل الآنية وتجعلها الهم الأكبر وإن تعاطت معها لتخفيفها قدر المتاح، ولا تكون كذلك حالمة تتعلق بأفق زمني بعيد وترسم الصور الوردية فلا يصبر عليها هذا الشعب الفقير رغم جلده المعروف وصبره على عاديات الزمن.
كما لا يرضى الرئيس بأن يوصف البلد بما هو خلاف واقعه؛ فهو بلد فقير فعلا، لكن الرئيس بالمقابل يوقن بأن ليس ثمت نقل ولا عقل يفيدان بأن قدر هذا البلد يكمن في أن يظل فقيرا؛ بل بالإمكان تغيير وضعه إلى الغنى، إذا تضافرت جهود كل أبنائه الغيورين على مصلحته وإذا استغلت موارده المتاحة أحسن استغلال.
من خلال هذه النظرة إلى أفق زمني أرحَب، إذًا، نفهم لما ذا يعول الرئيس على فهم وصبر نخبة الرأي من الموالاة والمعارضة.
ونفهم لما ذا لم يستطع مثيرو المشاكل الآنية أن يربكوا حسابات الرئيس أو يشغلوه أو يستعجلوه بها، ولما ذا هادنته المعارضة المسئولة ورغبت في استمرار الحوار الهادئ الذي دعا إليه، ولما ذا عزفت المعارضة المشاغبة –إن كانت ما تزال موجودة- عن رهاناتها التقليدية السابقة.
وحسب ما أفهم، يعتمد إطلاق ديناميكية الإصلاح الشاملة والمتزامنة على انتظار اكتمال الظروف المناسبة لمثلها، ومنها على سبيل المثال:
- أولا وقبل كل شيء : التأكد من أن هذه الديناميكة صار بالإمكان إطلاقها على نحو شامل ومتزامن في مختلف مسارات الإصلاح الكبرى، بحيث تحافظ على نفس النهج وتسير بنفَس لا يتوقف لمدة كافية لإحداث التغيير الجذري (سنين عديدة متواصلة).
- ربما، انتهاء المحاكمة المرتقبة للمشمولين فيما يعرف بملفات العشرية الماضية. ذلك أن تلك المحاكمة -بغض النظر على نتائجها- من شأنها أن تسهم في تأكد الجميع بأن نتائج تقارير التفتيش في تسيير المال العام سيرتب عليها ما تقتضيه، براءة أو إدانة، وأن القضاء مستقل وسيعمل بأحكامه مهما كانت وعلى من كانت.
- انتهاء رصد الطاقم الحكومي القادر على تجسيد الديناميكية المطلوبة، مع عدم التردد في الاستفادة من القدرات التي أثبت القضاء براءتها. ويشمل ذلك مثلا: رصد الوزراء المناسبين للنهج والنفس الجديدين وكبار معاونيهم، ورصد المرشحين لإدارة المؤسسات العمومية ذات الأهمية الكبيرة للمشروع.
- انتهاء رصد الموارد المالية الذاتية التي ستمكن من تمويل الديناميكية الجديدة واستمرارها حتى بدء تدفق الموارد المرتقبة لثروة الغاز الجديدة، بل إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستعقب ذلك.
- اكتمال الخطة المصاحبة للتكفل بمقاومة التغيير. تلك المقاومة التي تعتمد على "المال المتاجر في شراء الذمم والصفقات"، وعلى "الأطر المغاضبين لعدم إشراكهم" وعلى غيرهم ممن يبطل مشروع التغيير حساباتهم و"مصالحهم". فتأتي هذه الخطة لتعزيز دور ديناميكية الإصلاح في إرباك المكر المحتمل لهؤلاء، وتحجيم آفاق تأثيرهم.
ولقد كنت توقعت انطلاق هذه الديناميكية فور انتصاف مأمورية الرئيس الحالية مع بداية شهر فبراير 2022، وأرجو أن لا يؤاخذني القارئ الكريم في تخلف هذ الحدس، فإن مقالا يكتبه مواطن من عامة المواطنين مثلي لهو من أضعف الأسباب لاستعجال الرئيس فيما لم ير أن الوقت قد حان بعد للقيام به.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.