المجتمع الموريتاني مكون من عدة عرقيات ، مجتمع متعدد المكونات الاجتماعية التي تتفق وتختلف في بعض الجزئيات ، وهو أمر ينبغي أن يكون مصدر ثراء لا مصدر تناحر وصراع. من البديهي أن الدولة الموريتانية المستقلة في بداية الستينات – شكلا على الأقل- تشهد نوعا من السيطرة السياسية نتيجة لظروف اجتماعية قاسية مرت على هذا المجتمع، نتج عنها
ظلم وقهر لبعض فئاته من البعض الآخر وهو أمر لا يزال مستمر إنسانيا وسياسيا حسب المنظمات الحقوقية والكثير من مثقفي البلد غير المنتمين حقوقيا إن جاز التعبير، لقد كانت الحجة الأساسية وراء تغييب طاقة جزء كبير من القوة الفاعلة من المجتمع هي عدم التعلم وهو الدليل الذي لا يزال البعض يلوكه باعتباره مبررا للولوج للوظائف السامية في الدولة وحرمان البعض الآخر والحقيقة أن هذه الحجة مضحودة جملة وتفصيلا إذ ما نظرنا للمستوى التعليمي الذي صارت تتمتع به كل فئات المجتمع.
اكتسب هذا الحراك الاجتماعي زخمه منذ فترة ليست بالقصيرة ولكن عودته للواجهة من جديد جاءت مع تنامي التأثير الذي أحدثته حركة " إيرا" الحقوقية التي تتبنى مسألة العبودية، المتجذرة في المجتمع الموريتاني (المناطق الداخلية أساسا) ، وإن كان البعض يختلف معها في الطرح حيث يرى أن ماهو موجود لا يعدو كونه مخلفات للظاهرة سيقضى عليه بمرور الزمن وما هو موجود حسب أصحاب هذا الرأي هو عبودية اقتصادية ناجمة عن الممارسات السابقة وعن قلة التعلم في الفئة المستعبدة أساسا، لكن من المعلوم أن السلطات الموريتانية أقرت قبل فترة قصيرة قوانين مجرمة للعبودية باعتبارها ظاهرة تخالف الشرع والقانون ويعاقب مرتكبها بمجرد ثبوت الجرم، فهل من الممكن أن تشرع قوانين لمعالجة شيء غير موجود؟.
اتبعت حركة إيرا طرحا يبدو أنه أثار الكثير من الردود والتساؤلات عن جدوائيته في مجتمع متحفظ لا زال يؤمن بتابوهات حتى وإن خالفت الشرع وهو ما ولد ردودا متشددة كنوع من الدفاع عن الذات حسب من يعتقدون أنهم مستهدفون بالأمر في المقام الأول، يرى البعض أنه نتيجة للتمسك غير المبرر بهذه العادات والسلوكيات غير الإنسانية المتمثلة في استغلال البشر، فلا بد إذن من نوع من التطرف في الطرح يتماشى مع التمسك بهذا السلوك المشين.
يرى البعض أن إثارة موضوع العبودية ما هو إلا محاولة لإثارة الفتنة بين مكونات الشعب الموريتاني ومدعاة للعنصرية وفي المقابل يقتنع الطرف الآخر بأحقية وسلامة طرحه إذ يعتبر أن شعب لازال بعضه على مستوى معين مقتنع بأفضليته وسمو نسبه على غيره، لا يمكن أن يكون ركيزة لبناء مجتمع متسامح ومتصالح مع ذاته ،وأن العنصرية هي أن ننكر ألا وجود لها بغض النظر عن ممارسها من الجانبين، وهناك طرف ثالث مقتنع أن هناك ظلما ممارس على فئة من المجتمع - لحراطين- تجب إزالته كنوع من التصالح مع الذات ولكن بطريقة لا يكون فيها قدح في الآخرين إذا كنا جادين في الحفاظ على مجتمع يحظي بالتآخي بين مكوناته المختلفة، لكنني للأسف لاحظت في العديد من المقالات تبريرا للتفاضل لا يمكن أن يقبل من شاب يعيش في هذا العصر ينبغي أن تكون المساواة في الحقوق والواجبات مبدأه الأول لكن أن يؤصل للتفاضل على أساس المقاومة غير الموجودة أصلا فهذا نوع من المراهقة الفكرية، أما بخصوص سب العلماء والتطاول عليهم الذي أشار له البعض فهو أمر غير مستحب، لكن ماهو السبب؟ الأكيد أن "لحراطين" أو من كان مستعبدا منهم على الأقل يرون هؤلاء العلماء من زاوية أخرى، فهم يعتبرونهم قد ظلموا أجدادهم وظلموهم هم أنفسهم كونهم يعلمون عدم شرعية هذا الفعل وظلوا ساكتين إلى اليوم إلا من رحم ربك بغض النظر عن بعض الحالات التي جاءت بطلب من الأنظمة والتي لا تعدو كونها محاولة للإبقاء على مصدر الرزق الذي يوفره النظام.
الفتن والحروب الأهلية والصراعات وما إلى ذلك من مسميات سببها الوحيد هو اللامساواة والظلم الذي تتعرض له شرائح من المجتمع الموريتاني متمثلا في حرمانها من الوظائف السامية في الجيش وفي الإدارة حسب ما جاء في مؤتمر صحفي عقده زعماء الأحزاب السياسية المحاورة في دار الشباب القديمة وتحديدا على لسان بيجل ولد هميد، إذا من يسعى للحصول على شعب مسالم ومتآخي عليه أن يمارس نوعا من النقد الذاتي ليستخلص العوائق التي تحول دون ذلك ، بدل أن ننكر ماهو ملاحظ من ظلم وتهميش دون أن نحرك ساكنا.
موريتانيا تحتاج إلى شعب متفاهم فيما بينه متصالح ولكن ذلك لن يحدث ما دام هناك ظلم مادام هناك تهميش ، مادام هناك عنصرية دينية بغيضة، ما دام هناك كره، الدول تتقدم بالمساواة في الحقوق بالعدل ، لكن أن نستمر في النكران ونكرر أسطوانة مشروخة، الشعب متآخي ومتسامح ونحن نعلم في قرارة أنفسنا أن ذلك ليس على حقيقته هذا ما يسمى الهروب إلى الأمام والخوف من الحقيقة وما يتوجب علينا هو مواجهة هذه المشاكل والبحث لها عن حل يرضي كافة الأطراف.