بعيدا عن الجدل الحالي الدائر حول فقر البلد من غناه ، وبعيدا عن التعصب والسفسطة ، يمكننا القول أن الإنسان الموريتاني البسيط في غنى عن بصر وبصيرة زرقاء اليمامة لكي يدرك أن أوضاع البلد الراهنة لا تبشر بخير على الأقل ، وقادته في مجال تسيير الشأن العام لا يسيرون مطلقا في الاتجاه الصحيح.
وهناك قول مأثور أن البصر للآفاق ، وأن البصيرة للأعماق .
وإذا كان المؤلف والمدرب في التنمية الذاتية وبناء القادة ، الكندي من أصل هندي روبن شارما يقول : ( لم يكن كل تقدم في يوم من الأيام أكثر من مجرد حلم في ذهن صاحب رؤية ) ، فإن من حقنا اليوم أن نتساءل في ظل موجة اليأس والتيئيس الحالية من طرف قائدنا ، أين رؤيتكم المتبصرة لإنقاذنا وأين طموحكم المستنير ؟.
الفقر:
يقول مفكر فرنسي ( الجفاف من الطبيعة والجوع من سوء التدبير ) ، ونحن نقول أيضا إن فقر الدول في العصر الراهن من سوء التسيير والتدبير.
ثم إن وصمنا بالفقر المدقع ـ رغم تحفظنا عليه ـ ليس اكتشافا جديدا ، فنحن مذ وجدنا على هذه الأرض ونحن نعاني من نقص الغذاء والموارد ، وشح الماء والأمطار ، وقسوة الطبيعة ، لكن ـ ويالسذاجتنا ـ منذ بزوغ فجر الدولة الحديثة ونحن نأمل ونرجو أن يتم وضع حد لكل ذلك عبر مسيرة تنموية شاملة ، ويؤسفنا اليوم أن نكتشف متأخرين ـ بفضل قائدنا ـ أن كل آمالنا تبخرت ، وأننا نطلب المستحيل.
إننا إذ نشكر لكم ـ سيادة الرئيس ـ تواضعكم الجم ولطفكم وصراحتكم ، لنذكركم بأن الصراحة لا حدود لها ، لذا هل بقي في جعبتكم ما لم تفصحوا لنا عنه رفقا بنا؟
إننا نستحثكم على هذه المصارحة حقا ، ونأمل أن نحفزكم عليها ، خاصة عندما نضع بين أيديكم متوسلين مقولة الفيلسوف الألماني نيتشه : (نحن أكثر صراحة تجاه الآخرين منا تجاه أنفسنا).
وفي جميع الأحوال لا يسعنا إلا أن نرجو أن يكون سخطكم وقلقكم باعث عمل ، وصحوة ضمير جديدة ، وإن كانت متأخرة ، وأن لا يستحثكم باتجاه آخر لا سمح الله ولا قدر .
ومهما يكن توجهكم المستقبلي فلا يمكنننا إلا أن نراهن على بقية أخلاق لديكم ، وشيء من بصيص الحكمة وندعو لذلك لعل وعسى .
وإذا كان العلامة والمؤرخ ابن خلدون يقول : (يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه إلى خوف على ملكه ، فيأخذهم بالقتل والإهانة) ، فحاشاكم من ذلك.
إننا نحفظ أيضا بهذا الخصوص مثلا من مدغشقر يقول (الحاكم كالنار إذا ابتعدت عنه تبرد ، وإذا اقتربت منه تحترق) لذا أظنكم ستفهمون دون عناء ترددنا في الجنوح بعيدا .
سيدي الرئيس
إن سخطكم من واقع الشعب يجب أن يكون مشفوعا بنية جادة للإصلاح ، على الأقل تيمنا بحكمة الفيلسوف الصيني كونفوشيوس (لم يحدث قط أن وجد حاكم يحب الخير وتعجز رعيته عن حب الاستقامة ، ولا حدث قط أن أحب شعب الاستقامة إلا وبدرت أمور الدولة بنجاح).
هل من حق الرئيس أن يتذمر؟:
تتذمر الشعوب وتعلن عن سخطها ، وتشكو وتحتج لكي تغير السلطات الحاكمة من نهجها ، أو تعيد النظر في بعض سياساتها ، لكن عندما يتذمر الرئيس نكون جميعًا أمام وضع استثنائي بامتياز.
أيها الرئيس المبجل
يقول المثل العربي : (لا تكثر الشكوى إلى صديق فتحزنه ، ولا إلى عدو فتسره) ، ويضيف مثل آخر : (لا تكثر من الشكوى فيأتيك الهم).
إننا نتفهم سخطكم ونشاطركم أيضا مع قلق زائد خوفنا من المستقبل ، ولكن ليس في جعبتنا ما نفيدكم به سوى مقولة للسيد فرج فوده :
(إن المستقبل يصنعه القلم لا السواك ، والعمل لا الاعتزال ، والعقل لا الدروشة ، والمنطق لا الرصاص) .
وإن كنت أفضل تذكيركم سيدي - وحاشاكم من الغفلة - بمقولة تحمل لكم بعض العتاب الممزوج بلباقة الفرنسيين ورومانسيتهم الحالمة ، قالها القائد الفرنسي العبقري نابليون بونابرت (لا نحكم شعبا إلا بأن نريه المستقبل ، القائد هو تاجر الأمل) ، وحاشاكم أنتم أن تتاجروا في اليأس.
إن تشاؤمكم سيدي في هذا الظرف بالذات أخشى أن يكون قاتلا ، ثم لماذا لا تتصرفون؟
ـ هل إقالة أغلب أعضاء الحكومة ؛ خاصة الوزراء من حرسكم القديم ـ بمن فيهم وزيركم الأول مثلا - رغم ثانوية هذا الإجراء وبساطته باتت أمرا مستحيلا؟
ـ هل يمكن التمكين قليلا للمصلحين في الوزارات والإدارات ممن توضع أمامهم آلاف العراقيل والمشاكل ، لدرجة يخيل إليهم أنه تتحالف ضدهم كل قوى الشر في الطبيعة وما وراء الطبيعة؟
ـ هل القيام بجولة مفاجئة في الداخل بسيارات مموهة تسلك أغلب الطرق الرئيسية في البلد للإطلاع على حالها ،وحال المستشفيات والمدارس ، وتقصي واقع الناس المعيشي والخدمي بات ضربا من الخيال؟
ـ هل إعلان حرب جديدة جدية وجادة و حقيقية على الفساد أمر طوباوي لم يعد في عهدكم قابلا للتحقق؟
هل يمكنكم حقا فعل ذلك ؟
يقول فولتير:
. (أنا مثل الجداول الصغيرة ، فهي شفافة لأنها ضحلة)
لذا أنا ممن يؤمنون بأنكم تستطيعون فعل كل ذلك ، بل وأكثر بكثير.
واقع البلد:
إن حال البلد اليوم على درجة من الوضوح بحيث بات يتفق لأول مرة في الرؤية والتصور الدكتور والباحث مع بائعات الكسكس ، وأصحاب عربات الحمير ، ورجال الشارع العاديون ممن ينعشون بتحليلاتهم المجانية صالونات الرأي المحلي ، الكل في حال من الخيبة وانحسار الأمل لا تبعث بالارتياح ولا تبشر بخير .
ولا نبالغ حين نقول أن الجميع يتقاسم نفس الرؤية ؛ أن حكومتهم فاقدة للبوصلة والرؤية ، وقديما قيل : ( لا توجد رياح مساعدة لمن لا يعرف أين يسير ) .
وللتوضيح قليلا :
ـ من منا اليوم لا يرى حجم التخبط الحكومي ، والفشل في التفكير والتدبير ، وانعدام مردودية أغلب المرافق الحكومية ، و تغول الإداريين القدامى على الدولة والمواطن على حد سواء ؟
ـ من يكتم غيظه تجاه تدوير المفسدين ، واختطاف تسيير الشأن العام من طرف قدامى تماسيح الحكومات القديمة ، وديناصورات الإدارات السابقة الفاسدة ممن تعودوا النهب وألفوا التربح على حساب خزينة الدولة بكل الطرق؟
ـ من يثق اليوم في وعود حكومتنا الموقرة؟
وما أكثر وعودها
لقد تم إطلاق مئات الوعود في شتى المجالات على مدى السنوات القليلة الماضية ، لكن أغلبها لم يتم الوفاء به على الوجه المطلوب بكل أسف ، ووعود الحكومات إذا أخلفتها فقدت كليا ثقة المواطن .
الأزمة الأوكرانية:
لايبدو العالم اليوم منتشيا كثيرا بانحسار أزمة كورونا و متحوراته الكثيرة ، فما إن بدأت البشرية تتنفس الصعداء من ويلاتها حتى جاءت أخرى أكبر من أختها .
إن الحرب في أوربا الشرقية كحريق مراعي يندلع في أرض خصبة ذات غابات كثيفة في يوم عاصف ، بل لنقل إنها حرب نووية في المجال الاقتصادي على الأقل ، وكلما طال أمدها كلما كانت تداعياتها أكثر كارثية ووطأة على الجنس البشري.
لقد قفزت أسعار الطاقة ، واضطربت قيمة العملات ، ودخل الاقتصاد العالمي في نفق جديد معتم قد لا تخرج منه غالبية الدول إلا بأعجوبة ، خاصة في ظل إصرار الغربيين على التصعيد الاقتصادي والدعم العسكري المنقطع النظير للأوكرانيين.
إن مسألة الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء لا تبدو اليوم ترفا ، بل لم تكن في يوم من الأيام أكثر إلحاحا من وقتنا الراهن ، فالعالم كله يدق ناقوس الخطر بسبب توقع اضطراب كبير في سلاسل الإمداد العالمي من الغذاء ، وما قد ينجم عن ذلك من جوع واضطرابات وكوارث .
حسبنا مثالا على قلقنا المشروع بهذا الخصوص أن جارتنا الشمالية أوقفت بقرار رسمي قبل أيام تصدير مادة "الطماطم" إلينا لتأمين سوقها الداخلي من المضاربات ، ولنا تجربة سابقة مع نفس المادة بفعل فاعل آخر ، ما جعلنا حينها مادة دسمة للسخرية والتندر على المستوى الإقليمي على الأقل.
إن تأمين حاجات البلد من الغذاء والأعلاف ضرورة ملحة يجب التحوط لها الآن ، وسنكون ممتنين إذا أشفع كل ذلك بزيادة ولو محدودة في احتياطات بنكنا المركزي من الذهب بانتظار معرفة مصير الاقتصاد العالمي خشية أن يكون انهياره بات محتوما ولا مهرب منه ولا مناص ، خاصة في ظل تنامي نشاط التعدين الأهلي في ولاياتنا الشمالية ، وسهولة حصولنا على هذا المعدن النفيس بسعر تفضيلي.
إن إشتراط روسيا الدفع بعملتها المحلية الروبل هو البداية فحسب لزعزعة إستقرار العملات الكبرى ، ويتوقع أن تتبعها المملكة العربية السعودية في ذات الاتجاه خلال أسابيع ، ولاحقا الصين والحبل على الجرار.
الفساد:
صحيح سيادة الرئيس أن الألسن عندنا لا تنفك تلوك هذا الحديث الضعيف : ( كما تكونوا يولى عليكم ) ، ولكن كل من يردده منا يحفظ عن ظهر قلب : ( الرعية على قلب الأمير ) ، وهو جدل قديم متجدد لا يتسع المقام للخوض فيه هنا ، وإن كان البعض يحاول جاهدا لغاية في نفسه أن ينتصر للخيار الأول .
إن محاربة آفة الفساد التي يجمع القاصي والداني أنها أم الآفات لدينا لا بد منها وبشكل مستعجل لم يعد يقبل تسويفا ، إذ لا تنمية مع الفساد ، ولا بد من السعي لتغيير الواقع ، يقول محمد الغزالي : (إن كان تغيير المكروه في مقدورك فالصبر عليه بلادة ، والرضا به حمق ) .
إن فيروس الفساد ينتشر في مجتمعنا كالنار في الهشيم ، ولا غرابة في ذلك إذا تأملنا المقولة التالية للجاحظ : ( لا تجالس الحمقى فإنه يعلق بك من مجالستهم يوما من الفساد ما يعلق بك من مجالسة العقلاء دهرا من الصلاح ، فإن الفساد أشد إلتحاما بالطبائع ) ، لذا نترفع إلى مستوى النداء الملح إذا لم تكن هناك إرادة لمحاصرة الفساد أن يتم عزل الموظفين الجدد في الإدارات وأصحاب الكفاءات والنزاهة المشهودة في مؤسسات خاصة بهم تجنبا للعدوى ، وهم قلة بالمناسبة لكنهم رغم كل ذلك موجودون.
إنه مطلب سخيف كما ترون ولكن ما العمل؟
إن شبكات الفساد عندنا أشد تنظيما من المافيا الإيطالية ، وعلى من يأخذون على عاتقهم محاربتها أن لا ينسوا أن يبدءوا بأنفسهم لتكون حربهم عادلة ، وهدفهم مشروع ، حيث يؤثر عن الرئيس الروسي الحالي العظيم فلاديمير بوتين قوله : (أولئك الذين يحاربون الفساد عليهم تنظيف أنفسهم ) .
ختاما لا يسعني إلا أن أطلب من جميع المثقفين والكتاب وأصحاب الرأي والقامات الوطنية الكبيرة أن يرفعوا أصواتهم تحديدا من أجل الإصلاح ، ومحاربة الفساد.
ولا يفوتني أن أعبر هنا عن دهشتي ودهشة الكثير من الموريتانيين من مناورة بعض ساستنا من المحسوبين في يوم من الأيام بل حتى الأمس القريب على المعارضة التقليدية ، واصطفافهم في صف المطبلين والمبررين ، وكأنهم طالبو وظائف متخففون من قيود الأخلاق.
لا أريد إعطاء اسم محدد لكن ما رأيكم أن أقول إن أغرب هؤلاء في نظري رئيس سابق لحزب سياسي ذي توجه إسلامي ، وهو خطيب مفوه وكاتب ، والآخر يرأس حزبا سياسيا ، وسعى في يوم من الأيام إلى بوابات القصر عبر صناديق الاقتراع ، عفوا أقصد على متن الدبابات.