كلمة رئيس الجمهورية بمناسبة تخرج أكبر دفعات المدرسة الوطنية للإدارة؛ حملت كثيرا من الصراحة في تشخيص كبريات المشاكل المزمنة التي تعاني منها كل إداراتنا ومؤسساتنا العمومية، كما كشفت أقبح جوانب الفساد واللامسؤولية وأكثرها انتشارا في إداراتنا وبين موظفينا العموميين.
ولم تدع هذه الكلمة مجالا للشك في عمق وعي فخامة الرئيس بهذه المشكلات وبأوجه الفساد المرتبطة بها، وحتى بالمفسدين المسؤولين عن كل ذلك.
كما لم تخف الكلمة حجم انزعاج رئيس الجمهورية من عجز مسؤولينا الإداريين عن تجاوز أخطائهم الصغيرة؛ ناهيك عن خطاياهم الكبيرة.
وإذا كانت هذه الكلمة أخفت شيئا، أو تجنبت توضيحه في هذه المناسبة؛ فهو رؤية فخامة الرئيس لسبل معالجة هذه المشاكل، وطرق فرض التخلي عن الممارسات المرتبطة بها، وما ينوي الرئيس اتخاذه من قرارات وإجراءات رادعة بصفته صاحب السلطة العليا في الدولة، والمسؤول الأول عن البلد وأهله وعن ما يجري فيه، وعن ما يحاك له.
صحيح أن نقد الرئيس كان قويا، وتشخيصه كان دقيقا، إلا أنه رغم ذلك تفادى الإشارة إلى أي عواقب أو عقوبات يمكن أن يتعرض لها المعنيون إذا قصروا ثم تجنبوا الاستقالة..
إن الطبيعي هو أن تقوم سلطات الدولة بعزل الموظف العمومي إذا أظهر عجزا عن تحمل مسؤولياته وأداء واجباته.
وغير الطبيعي هو أن تطلب منه هذه السلطات أن يقدم استقالته؛ دون تلويح باتخاذ أي إجراء ضده إذا لم يستقل.!!!
وحين يتحدث صاحب السلطة والقرار عن ضرورة وأهمية أن يتحمل المسؤول العمومي كامل مسؤولياته ويؤدي بالكفاءة المطلوبة جميع واجباته؛ أو أن يترك لغيره مكانه؛ فإن الأمر يبدو في الظاهر أقرب لتقديم وجهة نظر أكثر مما يبدو إنذارا وأمرا صارما واجب التنفيذ وتترتب على مخالفته عواقب واضحة ومعروفة أو يمكن تخمينها سلفا دون ريب ولا شك.. فالرئيس في هذه الحالات يأمر ويتوعد ويهدد، ولا يوجه الطلبات أو يلقي المواعظ..
..
ومع ذلك؛ فإن ما يتمع به رئيس الجمهورية من خلق رفيع، ومن قدرة فائقة على ضبط النفس وإخفاء حقيقة المفكر فيه؛ تجعلنا نعتقد أن ما قدمه من توصيف غاية في الصراحة لجوانب مهمة من أوضاع مؤسساتنا وإداراتنا العمومية، وممارسات بعض القائمين عليها.. تجعلنا، إذن؛ نعتقد أن ذلك كله يحمل رسائل تهديد أوضح من كل تهديد، وإشارات وعيد أجلى من كل وعيد، وأن الرئيس قد وصل إلى قناعة بأنه لن يتحقق وعد دون وعيد، وأنه لا ضامن للوفاء بالتعهدات إلا بإشهار سيف العقوبات والمساءلات..
إننا فيما يبدو أمام حلم حليم بدأ ينفد، وصبر صبور بدأ يضيق بنتائج صبره ذرعا..
ولعل مسار التدرج في توجيه الرسائل الرئاسية بهذا الخصوص يقودنا قريبا لعملية تطهير واسعة لإداراتنا ومؤسساتنا؛ طوعا حين يختار المعنيون التوقف عن مسلكياتهم المخزية، أو ترك مواقعهم لغيرهم، أو كرها حين يضطرون الرئيس إلى أن يتولى هو بنفسه تطهير البلد منهم ومن ممارساتهم بواسطة مكانس التفتيش والتحقيق والمحاكمة.
منطق الأشياء يقول إننا نسير في هذا الاتجاه: اتجاه تفعيل مبادئ المساءلة، والعقوبة، والمكافئة..
لأننا دون السير على هذا الطريق؛ فلن يكون في مستقبلنا ما ينتظر غير مزيد الفساد، ثم مزيد المعاناة؛ فمزيد الإحباط، وما يقود له كل ذلك من قنوط وغضب، وشحن شعبي وشطط..
وتلكم مآلات لن يقبل بها عاقل حكيم، ولن يتردد وطني سوي في تقديم أغلى الأثمان وأصعبها ثمنا لتجنب الوصول إليها..
والأيام القادمة تحمل الإجابات الحاسمة.
جعلها ربي خيرا لا ضيرا..