اعتمدت الدولة الموريتانية منذ استقلالها سياسة التهدئة ومحاولة حلحلة الأمور بما يسمى بالوسائط المساعدة؛ كالقرابة والجهة؛ وظل عنصر الحسم غائباً في معظم تعاملها مع القضايا التي تمس كيانها؛ خصوصا في الجانب المتعلق بالنزاعات على ملكية الأرض وغيرها.
ويعود الأمر بحسب مهتمين إلى طبيعة المشاكل التي واجهت موريتانيا في بداية نشأتها؛ كمشكل الهُوية وحرب الصحراء ...إضافة إلى عوامل عدة ساهمت بدورها في ترسيخ سياسة اللاواقعية والتعامل بمنطق النعامة مع تحديات جوهرية؛ وهو ما انعكس على الخطاب الرسمي الذي شكل مرآة عاكسة لخلل بنيوي يراد له ان يكون محورياً في كل الإستراتيجات المعتمدة.
كان من الطبيعي في وضع كهذا أن تتحدد قيمة المسؤولين بمدى قدرتهم على المحاباة؛ وتكريس واقع التجاهل وتضخيم إنجازات لا تعدو كونها مجرد شعارات للاستهلاك المحلي.
وفي هذا السياق أسرد قصة الإداري الذي لم يكن راضيا على هذا النهج؛ حين حاول بأسلوب لبق إقناع الرئيس الراحل المختار ولداداه في إحدى زياراته لولاية داخلية "بأن الخطاب الذي ألقاه والي تلك الولاية أمامه مجانب للصواب.
فقد تحدث السيد الوالي بكل ثقة عن عدد من الآبار الارتوازية التي شيدتها الدولة في ظرف قياسي؛ وبدأ بذكرها حسب المناطق؛ ففي المنطقة كذا حفرنا بئرا بعمق خمسين مترا؛ واسترسل في الكلام حتى وصل العدد لأكثر من عشرة آبار..لما انتهت كلمته قال الحاكم بفكاهته المعهودة؛ سيدي الرئيس أسأل الله أن أسقط في أعمق الآبار التي حدثكم عنها السيد الوالي".
من الوهم إلى واقع معاش:
أصبح الخطاب الرسمي منذ تسعينيات القرن الماضي يعتمد على أساليب تسويق الوهم؛ الذي تحول مع الوقت إلى جزء من واقع القوم..فقد نجح مسؤولون كبار في إقناع معاوية بأن موريتانيا تشهد نهضة على جميع المستويات؛ مؤسسين بذلك لنظرية "الدعم اللا المشروط" التي يسهل وصف المعترضين عليها بالمارقين.
لقد أظهرت الأزمات التي عرفها البلد في تلك الفترة ( ثلاثة انقلابات متقاربة ) مدى زيف المقاربات التي سوق لها سياسو الموالاة في البلد.
متتالية الانتهازية:
لم يسع الحكام الجدد لتغيير الخطاب السياسي القائم على تثمين الإنجازات غير المرئية؛ وإخفاء الحقائق؛ بل تحالفوا مع ثلاثي الجهة والقبيلة والشر يحة للمضي قدما في المسارذاته؛ الذي يمكننا تسميته بمتتالية الانتهازية التي رفع أصحابها شعار تقديس الفرد على حساب الدولة لتحقيق مكاسب شخصية
أدت استمرارية هذا النهج لستة عقود لفقدان الشعب الأمل في كل ماله علاقة بالدولة.؛ التي أصبحت بالنسبة له رمزا للتملق ولتبديد المال العام وللخطابات البيداغوجية.
خطاب يحتضر:
إن آليات التغيير عبر التاريخ تتطلب جرءة كافية ومرنة في نفس الوقت؛ للانتقال عبر السياقات الزمنية المعقدة في علاقتها بذاكرة المجتمع وبواقعه الذي اعتاد عليه؛ فكلمة فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الأخيرة أمام دفعة من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء؛ تحمل بوادر تغيير جذري جريئ في الخطاب الرسمي في موريتانيا؛ الذي كان يعتمد على ثلاثية تضخيم الوهم؛ وتمجيد الحاكم وإخفاء الحقائق.
فصراحة الرجل في كلامه ونقده الحاد لأداء الإدارة الإقليمية ولمؤسسات حيوية؛ أعطى انطباعا لدى الرأي العام بأن ثمة ارهاصات لمخاض خطاب رسمي جديد؛ سيؤدي بالضرورة لانهيار نظم قائمة على تراكمات من تكريس نفوذ؛ تمددت جذوره عبر حواطن قبلية وسياسية عصية على الاختراق؛ وعلى تقبل أي نمط جديد؛ وهذا ماجعل من أصحابه عاجزين عن فهم التحول العميق في المعطيات الدولية وفي عقلية الشباب الموريتاني؛ والظاهر من خلال محاولتهم الالتفاف على التهديد الصريح لرئيس الجمهورية؛ أنهم لن يستوعبوا بعد أن ثمة تغييرا؛ قد يكون جذريا؛ في أسلوب الخطاب ونوعية التسيير المعتمدين في الدولة الموريتانية منذ تأسيسها.