يعالج هذا الجزء الأخير من الورقة نموذج التنمية في موريتانيا من زاوية رصد اختلالاته وضرورة إعادة صياغته على أسس تأخذ في الاعتبار خصوصية وضعنا الاقتصادي والاجتماعي بما يُمكّن من تعظيم المزايا التفضيلية والحد من مخاطر وآثار التبعية للعامل الخارجي.
يتوقع صندوق النقد الدولي في تقريره الصادر يوم 15 ابريل 2020 أن يتراجع نمو الاقتصاد الموريتاني بثمانية بالمائة مقارنة بسنة 2019 وهو ما يعني أن النمو سيكون سالبا في حدود 2- % وتحتل الدولة مركزًا مهمًا في الحقل الاقتصادي (موازنة الدولة تعادل 30 % من الناتج الداخلي الخام ).
لا تعكس البنية التوزيعية الحالية لمساهمة القطاعات في تشكل الناتج الداخلي الخام الموريتاني منطقا يمكن لأي لبيب أن يستسيغه فبدل أن تساهم مكونات القطاع الأولي (الزراعة، الصيد والتنمية الحيوانية) بالحصة الأوفر نجد أنها مجتمعة تشارك بنسبة 27 % ويساهم القطاع الثاني (الصناعة والمعادن) بنسبة 30 % في حين يساهم القطاع الثالث (التجارة والخدمات) بنسبة 43 % يحصل هذا في ظل غياب إحصاءات موثوقة عن حجم القطاع غير المصنف والذي يحتل حيزًا لا يمكن تجاهله بحكم أعداد المنخرطين فيه.
لقد درجت الأنظمة السياسية المتعاقبة على حكم البلد على تغليب منطق الريع على حساب خلق القيمة المضافة وتجسد ذلك أكثر في قطاعات الصيد والمعادن وهو ما حرم البلاد من فرص حقيقية للإقلاع الاقتصادي وقد حصل ذلك بالتوازي مع عجز تام لهذه الأنظمة عن إحداث إصلاح حقيقي في استغلال الثروتين الزراعية والحيوانية بالرغم من توفر البلاد على مقدرات هائلة (موارد مائية فائضة، أكثر من 500 ألّف هكتار قابل للاستصلاح الزراعي وحوالي 18 مليون رأس من الإبل والبقر والغنم) فلم نستطع بل لم نهتم أصلا بتطوير الشُّعَب في هذين القطاعين والنتيجة هي أنه لا فرق بين التنمية الحيوانية في موريتانيا سنة 2020 وما كانت عليه منذ قرون اللهم إلا إذا استثنينا ما يحصل من مفارقات غريبة حين تتدخل الدولة بشكل دوري ومُكلّف جدا عبر برامج خاصة لإنقاذ ثروة حيوانية تعود ملكيتها في الغالب لأثرياء ودون تحميل أي جباية على هذه الثروة حين ينقشع الخطر!!!.
ظلت أشباه المقاولات الصناعية بدائية وغير قادرة على إحداث الفارق لا من حيث مساهمتها في خلق الثروة ولا من حيث دورها في امتصاص البطالة وظلت تنمو كطفيليات على جسم مصرفي "عائلي" وعلى موارد المجموعة الوطنية كلما وجدت إلى ذلك سبيلًا وهو ما حد من قدرة المصارف على الاضطلاع بالدور الذي من أجله رأت النور في منظومة اقتصاد ليبرالي أي تمويل الاقتصاد ومواكبة المبادرة الخاصة.
أدى هذا التيه إلى تشكل صورة للبلد غير زاهية بالمرة هي صورة تختزلها تصنيفات البلاد في معظم مؤشرات التنمية (الرتبة 190 في تصنيف مؤشر التنمية البشرية لسنة 2018، الرتبة 137 في مؤشر الشفافية الدولية، الرتبة 152 في تصنيف مناخ الأعمال، و 31 % من السكان تحت عتبة الفقر، كل موريتاني مطالب اليوم ب 850 دولار لدائنين خارجيين) إنها صورة تدين نُخب البلد، من رحل منها رحمه الله ومن ينتظر أصلح الله عمله.
أمام وضع بهذه القتامة ومع أن الموضوع يحتاج أكثر من فصل بورقة من ثلاثة أجزاء عُدّت على عجل إلا أن الفرصة الآن قد لا تتيح توسعًا في التحليل لذا سأكتفي بمحددات عامة لإصلاح منشود لنموذج التنمية الموريتاني:
- قطاع الزراعة: صياغة مقاربة استصلاح واستغلال زراعي ينشد تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب والتمور والخضراوات وحشد التمويلات لذلك ضمن مقاربة مبتكرة لتمويل الزراعة مع تجنب الاستئناس بالتجارب السابقة سيئة السمعة وانخراط الدولة ليس فقط كفاعل تنظيم بل كفاعل اقتصادي ( عودة الدولة للاقتصاد هي نتيجة حتمية لما بعد كورونا) دون التضييق على الفاعلين الخصوصيين وتشجيع إنشاء اتحادات تعاونيات زراعية وإنشاء آلية عمومية لشراء المحاصيل وتسويقها وتصدير الفائض عن السوق منها وهو ما من شأنه تحفيز المستثمرين عبر ضمان تسويق منتجاتهم والتعجيل بسن إصلاح عقاري يكرس ملكية الدولة للأراضي الزراعية دون سد الباب أمام استغلالها وفق القانون من طرف المجموعات والأفراد.
- قطاع التنمية الحيوانية: نقطة البداية في إصلاح هذا القطاع ينبغي أن تمكن من إحصاء شامل للثروة وضبط المعلومات حول المالكين الحقيقيين وفرض ضريبة عن كل مائة رأس فما فوق وتشجيع الاستثمار في مصانع الأعلاف بالولايات الرعوية وحل إشكال مصنع الألبان وتنمية الشُّعب ودمجها في المنظومة المنتجة للاقتصاد وتحسين خدمات الصحة الحيوانية.
- قطاع الصيد: يتطلب إصلاح هذا القطاع حل إشكالات التمويل باستحداث خطوط تمويل موجهة لوسائل الانتاج وتشجيع الاستثمار في وحدات التخزين ومصانع التحويل (علمًا أن قطع رأس السمكة وزعانفها ليس تحويلا ولا يخلق أي قيمة مضافة) وحل إشكال الكهرباء بانواذيبو وتفعيل أرصفة التفريغ وزيادتها والاستثمار في التكوين الموجه للقطاع . لا بد أيضا من إعادة بلورة مقاربة التسويق والتصدير ووضع حد للتلاعب بالأسعار وبتصريحات البيوع كما أنه من الملح تفكيك مصانع دقيق السمك ونقلها خارج الحيز الحضري لمدينة انواذيبو. من المهم جدا أن تسحب الدولة كل التراخيص العاملة في الصيد بكل مكوناته حتى تتم صياغة استراتيجية تحترم في جوهرها ومعناها عقول المواطنين وتضمن استغلالا أمثل لثروتهم.
- قطاع الصناعة والمعادن: لم تفلح مدونة الاستثمار ولا مدونة المعادن في الرفع من هذا القطاع وظل يترنح في مربع العبثية. لابد من توجيه جهد أكبر نحو الصناعات التحويلية حتى تكون الثروة مفيدة للمواطن قبل تصديرها فشركة اسنيم تصدر الحديد في وضعه الخام وبمقدورها الاستثمار في التحويل. هذه الشركة لم تستطع منذ تأميمها تجاوز عتبة 13 مليون طن من الخامات (لم تصل هذه العتبة إلا سنة واحدة) علمًا بأنها رفعت من السوق العالمي مليار دولار كقروض سنة 2008 لم يكن لها أي أثر على الانتاج وظلت الشركة تابعة في رقم معاملاتها السنوي لمحدد الأسعار (محدد خارجي يخضع لتقلبات السوق) مع تجمد في الكميات المنتجة. من المهم أيضا تشجيع إنشاء أقطاب صناعية خارج العاصمة وانواذيبو وإلزام المستكشفين ولاحقا المستغلين بالاستثمار في التكوين لنقل الخبرة وتوطينها.
- قطاع التجارة والخدمات: الظاهر أن البنك المركزي يعاني في فرض هيبة سلطته على المصارف الوسيطة وهنا لا بد من حث هذه المؤسسة على الاضطلاع بدورها في إصلاح منظومة مصرفية لا تؤدي الدور الذي أنشئت من أجله وذلك بتصور حلول لا يمكن أن تكون غائبة عن مؤسسة الإشراف تهدف من بين أمور أخرى إعادة تشكيل الخارطة المصرفية كالرفع من رسملة المصارف إلى حد أدناه مائة مليون دولار (37 مليار أوقية قديمة) وتشجيع المصارف على التكتل فأكثر من عشرين مصرفا هي مجموع المصارف العاملة اليوم لا تؤدي إلا دورًا هامشيًا في تمويل الاقتصاد وتُراكم حاليًا أكثر من 22 % من الديون المشكوك في تحصيلها وتعاني مشاكل حوكمة نتيجة عدم الفصل بين الملكية والتسيير. من جهة أخرى لا معنى لأن تظل الفوضى تضرب أطنابها في مؤسسات التأمين والاتصالات مع غياب أغلب الخدمات المنتظرة منها وتردٍ للخدمات القليلة المسداة.
حان الوقت لأن ينضج القطاع الخاص وأن يبدع كفاعل رئيس في العملية التنموية بدل مواصلة التفرج على مشهد لا يتدخل في مجرياته بالشكل البنّاء الذي يليق بقطاع خاص يفترض أن تهمه نهضة بلده.
كخلاصة فقد لا نختلف على حقيقة تبدو بديهية وهي أن الوقت قد حان لأن نصلح الاختلالات البنيوية لنموذجنا التنموي ولو تطلب الأمر من المعنيين البدء بإصلاحات قطاعية عاجلة فما لا يدرك كله لا يترك جله.
حفِظ الله الجميع ووفقنا وإياكم لصيام رمضان وقيامه.