من المعلوم أن فخامة الرئيس، عند توليه قيادة البلد ،وفقا لبرنامجه "تعهداتي" ، الذي نال ثقة أغلبية الشعب الموريتاني، واختار الطاقم الذي يراه مناسبا لتحقيق هذا البرنامج ،اعتمد منهجا مغايرا تماما ، لمن سبقوه من الرؤساء، وفقا لفلسفته الانفتاحية التي جاء بها ،وقد تمثل هذا المنهج في إعطاء الصلاحيات الكاملة للطاقم الذي اختاره ، ووضع كل المسؤولين في الدولة أمام ضمائرهم، ليتصرفوا وفقا لضوابط النزاهة والشفافية والحكامة الرشيدة ،وترك لهم الحبل على الغارب ، لإعتقاده انهم سيتصرفون وفقا لبدإ ( الرعية على قلب الأمير )، والأمير ،يعرفون أن له " تعهدا" للشعب الذي انتخبه، ويعرفون كذلك أن " للعهد عنده معني " ، ويعرفون أكثر من ذلك ، انه من خلال برنامجه ،قد اختار ان يكون في صف ( الضعفاء )والمغبونين، و أولئك الذين قصً الظلم السنتهم طيلة عقود من الزمن ، وجاء لينهي الحيف والغبن عنهم ، ويُدخلهم في دورة الحياة المنتجة ،حياة الكرامة ، ويغنيهم عن تعب أستخدام اجسادهم ( عضلاتهم ) لتحصيل قوتهم اليومي بعملِ عقولهم ومعارفهم ،حتى يتساووا في الكرامة مع غيرهم من الناس، جاء ليجعل هذا الهدف في اولويات منجزاته لهم ،ولم يخفِ ذلك عن طاقمه ،ولا على شعبه ،وعمل على تحفيز الجميع لفهم ذلك، ولم يغب هذا الأمر في جميع خطاباته واولويات برامجه وخططه، ولا في اختيار أنواع المؤسسات التي تناسب انجاز ذلك الهدف ، وأعطى الوقت الكافي للمسؤولين لإنجاز الاعمال وخدمة الناس ، وكانت عينه على الجميع، يحثه على الجدية والتفاني في خدمة المواطنين، والتحلي بالمسؤولية العالية اتجاههم .
ظل هذا المنهج خياره، طيلة ما انقضى من ماموريته،إلى أن طلع في خطابه، امام الجالية في مدريد( اسبانيا ) ليبينَ عن رؤية تشريحية لواقع البلد (غناه وفقره )، ويرسم لوحة يتداخل فيها الأمل بالتفائل مع ذكر المتاح والمكن ،مُشخصا للإكراهات القائمة ومُبينا للأولويات التي يجب التركيز عليها ،ليأتي في خطابه الموالي أمام خريجي المدرسة العليا للإدارة والصحافة والقضاء ،ليعري
ويكشف بشكل صريح وواضح ، الاختلالات والأورام التي تنخر في جسم السيستم بكامله ،مركزا على نبش ورفع الحجاب السميك عن العلل التي تعانيها القطاعات الخدمية بالدرجة الأساس ،( الصحة ، الإسكان ،الضرائب ، الحالة المدنية ،التعليم ، الإدارة...الخ)، واضعا الجميع ، أمام مسؤولياتهم مرة أخرى ، ليكونوا أكثر قربا من المواطنين، واكثر احتراما لهم ، ويبتعدوا عن الانتقاص من كرامتهم ،وينبه الذين يتولون تلك المسؤوليات لِيذًكرُوا انهم ،وضعوا اصلا ، لخدمة المواطنين في المقام الاول،ومن لا يرى نفسه اهلا لذلك ،أو غير قادر عليه ،فعليه أن يستقيل من مسؤوليته تلك ، لان ذلك الطفَ له و اصلحَ وانجعَ للمواطنين .
ومن هنا يظهر ان طلب الاستقالة (استقالة الموظف ) ،يُدخلنا في مرحلة جديدة من المنهج المتبع من طرف السيد الرئيس ، فطلب الاستقالة من موظف استمرأ السرقة وأكل المال العام ، أو عجز مهنيا وعلميا عن إدارة مرفق عمومي ،أو كان غير مبال لضعفٍ في إطاره الأخلاقي ...الخ ،هو طلب ،لا يمكن حمله على أي وجه من أوجه الثقة والاحترام للموظف المشار إليه ، وإن لم يكن تسفيها له ، فإنه كشف من السيد الرئيس لطبيعة تجذر عدم المسؤولية عند البعض من المسؤولين ،و الرئيس يعرف ان الأجيال التي تخرجت في العقود الأخيرة ، من تاريخ سيبة المدرسة العمومية و الخصوصية وغياب التربية المدنية فيها، و تخلي الأسرة عن دورها كداعم للمدرسة ،واهتزاز القيم بشكل عام في المجتمع ،وتعاقب انظمة سياسية على البلد، أعطت أمثلة سيئة لنموذج الموظف العمومي، الذي يجب أن يتولى الشأن العام ،وقوة تدخل الدولة العميقة ( القبيلة ..) ، كلها عوامل جعلت بعض الموظفين الحاليين غير مؤهلين، ليكونوا أداة للاصلاح المرغوب فيه والمطلوب بإلحاح من طرف الأكثرية المتضررة من سوء الموظف الفاسد و البيروقراطية المقيتة،لذلك جاء طلب الاستقالة ، كنبش واضح في طبيعة شخصية الموظف العمومي الفاسد ، وتلويحا له بأن الثقة لم تعد فيه ،مهما لبس من لباس العفة، لانه ببساطة ظهرت عوراته ، فليتهيأ للمغادرة بشكل يصون له ماء وجهه ،أو بقرار يناسب طبيعة جرمه .
هذا بعض ، من ما يمكن ،أن نخرج به، من خلال الخطابات الأخيرة لصاحب الفخامة .
وأنطلاقا من المنهج الذي اتبعه السيد الرئيس في إدارة شؤون البلد ،نستدرك بعض الأمور التي نرى انها كانت في غير محلها حسب النتائج .
اول هذه الأمور هو إعطاء المسؤولية الكاملة للموظفين ، وزراء أو غيرهم في السيستم ،رغم أن ذلك من الناحية المبدئية امر وارد وسليم ، ومحفز للعمل والجدية ،ويخلق
التنافس في جودة الأداء، وهو في نفس الوقت أختبار لآخلاقيتهم ،
ولكن ،في مجتمع كمجتمعنا، يعتبر بعضه سرقة ابنائه للمال العام بطولة ( اتفكريش) ويُقيمُ الاستقامة كعلامة ضعف ،وفي دولة كدولتنا مزالت في طور بناء شخصيتها الإدارية الوطنية ،وما قلناه حول تاريخ الأجيال الأخيرة ، يبرر عدم إعطاء المسؤولية المطلقة للمظف العمومي ،خاصة الموظف الذي يكشف تاريخه المهني عن تجربة مهنية وأخلاقية غاية في سوء إدارتة للمرفق العمومي ،مما يجعل تدويره ليصلح ضربا من المستحيل ،
فمن سرق مرة سيسرق مرات أخرى،ومن كان غير مبال بمسؤوليته مرة ، فلن يبالي بها مرات أخرى،ومن احتقر المواطنين وانتقص من كرامتهم مرة ،سيحتقرهم مرات ،وينتقص من كرامتهم مرات أخرى، ان لم يصفِ الحسابات معهم ،ومن مارس البيروقراطية المَقيتة في الادارة مرة سيمارسها مرات ،بل ستظل الثابت الذي لا يتغير في سلوكه المهني والأخلاقي.
سيد الرئيس، ان مثلَ الموظف المحترف للسرقة وسوء المعاملة للمواطنين ،كمثل الص المحترف للسرقة ،يدخل السجن اليوم ليخرج منه غدا ،ويعود بعد غض ،فالعودُ مُلازمه على الدوام، والموظف السارق المُدورُ ،يظل سرطانَ الإدارة لانه يحتمي بالآخرين، بتعليمهم فن التحايل وكيفية ممارسة السرقة بطريقة غاية في الاحتراف ،فالأسلمُ
بتره منها ، لانه عضو تَسرطَنَ وقد ينتقل صرطانه لباقي الجسد ،وهذا هو رأي كافة الناس في تدوير المفسدين ، فمن لم يردعه الوازع الديني المصاحب لنشأة الفرد في مجتمعنا ، عن فعل القبيح وغير المباح ،لن يردعه درس في التربية المدنية لم يتلقه اصلا ،أو لُقن له من طرف معلم مهزوزَ الحضورِ التامِ لٍدرسهِ ، بسبب قلة حيلته في تحصيل قوت عياله .
سيدي الرئيس قد حان لإدارتنا ان تنتج المصلحين ، وتبتعد عن إعادة إنتاج المفسدين ، وما خطابكم الأخير،ولا الذي قبله بخطاب مهادن ،ولا بخطاب يحمل بشرى للمفسدين على الإطلاق،أو هكذا فهمناه ،وهكذا فهمه الناس ،بل إن الكثير من المواطنين ، توقع بداهة، أنكم ضقتم ظرعا بإهانة مواطنيكم من طرف بعض الموظفين السيئين،وان صبركم على هؤلاء، قد نفد ،ووليتم ظهركم لهم ،وما هي إلا أيام وترفعون لائحة باسماء لم تعد صالحة لمواكبة مشروع إصلاح من نوع " تعهداتي " الذي زكاه الجميع ،واستبشر خيرا به .
ثاني هذه الأمور ، ان السيد الرئيس توخى منهجا تدرجيا، لوعيه ولعمق معرفته بالمجتمع الذي يسوسه،وصعوبة تطبيق القوانين عليه ( مجتمع البادية ) لتراكم تمرده على القوانين ،عبر تاريخ الصراع بين الدولتين، الدولة العميقة ( دولة القبلية ) ، و الدولة الوطنية ،لذلك
منح الصلاحيات الواسعة للموظفين ،وتركهم يتصرفون وفق لضميرهم الوطني وللوازع الديني والأخلاقي عندهم ،ووجه ونبه وأصدر التعليمات طيلة المدة التي انقضت حتى الآن من المأمورية، ليختم هذه، بالخطابين الاخيرين اللذين حدد من خلالهما شروط المواكبة له واسولوب انجاز برنامجه الخدمية ،وهو الأمر الذي استبشر به الجميع وخاصة الضعفاء والمغلوبون عل أمرهم .
هذا بعض ما فهمنا من خطاب السيد الرئيس ،فهل فهمت انت نفس الفهم ،ام فهمت شيئا آخر ؟
مروركم يسعدنا ويعمق النقاش حول الأفق الذي افتتحه صاحب الفخامة بخطابه الأخير وقبل الأخير.