خطاب الرئيس و إستقالة الحكومة / القصطلاني إبراهيم

على غير عادة الخطابات الرئاسية المهادنة للحزب الحاكم و المسايرة لأهواء حكوماتها جاء خطاب فخامة رئيس الجمهورية بمناسبة تخرج دفعة جديدة من المدرسة الوطنية للإدارة هي الأكبر و الأكثر تنوعا منذ تأسست المدرسة.

كان خطابا ينزل للقاعدة و يحاكم القمة، خطابا يغربل التفاصيل و يتساءل عن المحاصيل، يبدو الرئيس فيه كمحام عن المواطن رغم موقعه التنفيذي الأول.

هزة في التعبير عن الحالة الإرتجالية في التسيير التي أعتدناها من الوزراء و المدراء، و مسحة من الواقعية في قراءة الوضع تأتي هذه المرة من رأس السلطة.

وقفة تأملية في جدوائية العمل و مردوديته على واقع يزداد قتامة كلما أقتربت منه، و يتراءى فيه المواطن البسيط وهو حائر في يومياته اتراجيدية، و يكاد يفقد الأمل في التغيير.

طرح الرئيس بعض أسئلة المواطنين التي تلامس حاجياتهم الضرورية و غابت عنه أسئلة اخرى أكثر إلحاحا أو غُيبت، ربما لأن بعضها يخالف قواميس المنطق السياسي الذي يسعى لتبني قضايا الشعب،  فأسئلة المواطنين الملحة تجعل العلاقة بين الوطن و المواطنة مجرد تشابه في حروف الهجاء.

خرجت الحروف في الخطاب كأنها قصيدة حزن تتأوه على نكبات الدهر، و تدحرجت على وجوه الحضور كأنها قطرات من الأسى.

بحث الرئيس عن المواطن في سجلات الإدارة، فلم يجد له سوى طوابير من الإنتظار و أصوات قد بحت قبل أن تصل ضواحي القصر الرئاسي.

تفاصيل صغيرة جدا، أتى بها فخامة رئيس الجمهورية في خطابه، لم يكن من المتوقع أن تحتل حيزا في خطاب موجه لأطر الشعب.
فسحب مستخرج من وكالات الإحصاء، و قطع الماء و الكهرباء في عطل الأسبوع، لم تكن لتصل إلى أعلى قمة في الدولة، و هي أحداث يعيشها المواطن  يوميا يئس من تغييرها.
أما و قد وصلت!؟، فتلك إذن إختلالات عميقة تجعل وكلاء الإدارات ينتبهون لما يقومون به من تلاعب بمصالح المواطن، ليس فقط من خلال أناته اليومية التي لم يعتادوا التعاطف معها، و لا من خلال المعارضة التي يعتبرون إنتقادها مجرد فقاعات سياسية مضللة، بل من طرف من إئتمن مدراءهم و وزراءهم ، فخامة رئيس الجمهورية.

إنتهى الخطاب و بدأت ردت الفعل تتسارع حوله، و تبعت الخطاب إجراءت ميدانية زادته سخونة.

إجتماعات طارئة بالولاة و الداخلية، و بين وكيل الجمهورية و مفتشية الدولة و مدير شرطة الجرائم الإقتصادية.

لقد أخذت تفاصيل يوميات المواطن حظها من الكلام بعد أن كانت مجرد تهافتات مهملة لا يسمع لها صوت.

بدأت الإدارات تعيد تموقها مع ذاتها و مع مواطن لم تقترب منه يوما.
خصوصا تلك التي شملتها التفاصيل الصغيرة، و بدأت في اتخاذ اجراءات تساير الخطاب و تتبناه.

و تلك عادة أعتدناها في كل الحكومات و إداراتها، حيث تراقب بوصلة إهتمام الرئيس لتلوح بيدها اتجاهها و تفسد باليد الأخرى ما استطاعات في اتجاهات اخرى مظلمة لم يسلط عليها الضوء.

فخلايا الفساد لا تجيد عملها إلا في الظلام الدامس.

و أخيرا وصل الأمر حد إستقالة الحكومة او إقالتها على الأصح.

تلك الخطوة التي أستوقفت المواطن و الساسة معا، و جعلتنا في نهاية فقرة و بداية اخرى.

بداية فقرة تتساءل عن من يمكنه ان يسير مرفق من مرافق البلد بطريقة شفافة و حاسمة و رائدة.

شخصت الابصار و بهتت الأفكار و بدأ الإنتظار...

فقبل ايام قليلة كان الحديث عن ثنائية فقر البلد و غناه، تلك الثنائية المثيرة.

فغنى البلد ماثل في الثروات و المساحات مقابل  النسمات القليلة، و فقر البلد ماثل في الإختلالات و اللامبالات و الإنتهاكات لقيم النزاهة و الشفافية، و غياب الروح الوطنية الأصيلة.

سؤال إذن كبير يلوح في الأفق.

كيف يمكن لموريتانيا ان تستفيد من ثرواتها و إمكاناتها و فرصها من خلال إداراة ابنائها لها؟

من سيتولى التسيير الناجح...؟

صمت مطبق، يخيم على الصورة المنتظرة....

فإعادة الثقة ببعض المسيرين السابقين تدوير، و تعيين جدد لا خبرة لديهم تقصير...و بين التدوير و التقصير، ينتظر البلد من يخرجه من حالة الفقر إلى حالة الغنى.

إن من يراقب الحالة التي نعيشيها و اللحظة التي نمر بها، يدرك ان البلد فقير إلى الإصلاح و المصلحين.

و أن اية حكومة مرتقبة بغض النظر عن كفاءتها، لن تستطيع ان تغير شيئا ما لم تُراقَب عن كثب و تُراقِب عن كثب.

فمشاريع التدشينات و التسميات اللامعة و الشعارات الكبيرة، ملها الشعب و ملها الواقع.

هنالك إشكالات عميقة، في عمق المفاهيم الإدارية لدينا، و حتى في مفهوم الموظف نفسه.

فلئن كان الموظف شخص يؤدي خدمة لوطنه مقابل إمتيازات محددة لمدة محددة قابلة للتجديد، و يدخل في هذا رئيس الجمهورية نفسه، فما هو إلا موظف لدى الشعب.

فالموظف إصطلاحا في قاموس الواقع الذي نعيشه، هو مالك لخدمة، يعطيها متى و كيف شاء، و عليه أن يجمع ما أمكن من ثروة من خلال وظيفته، بكل الوسائل المتاحة قبل ان تضيع عليه الفرصة.

هي إذن إختلالات في المفاهيم قبل أن تكون إختلالات في الأداء

تركة ثقيلة من التعود على الفساد و الإفساد تحتاج إلى الوقت و الصرامة و المتابعة و الصبر و الشجاعة في المواجهة من أجل تحييدها عن كاهل البلد الذي ضاق ذرعا به 

و ما ننتظره ليست حكومة مغايرة أو مشابهة للحكومات السابقة، ما ننتظره هو تغيير في الأداء و في الطريقة المتبعة في الرقابة و المتابعة و التقييم و التقويم، تستمر بشكل يومي، يكون فيها رئيس الجمهورية حاضرا بشخصه و بخطابه في تفاصيل حياتنا ، و  حتى نصل إلى مرحلة يمكن أن نستكشف أو نصنع فيها رجالات تعودوا الإصلاح من خلال تلك المرحلة الرقابية الصارمة التي عايشوها، و حتى تُرسم لهم طريقا يبسا يمرون بها، ليصل البلد إلى التنمية المنشودة.

غير ذلك، فستظل ماكينة الفساد تفسد المصلح، و تظهر المفسد بطلا أسطوريا قل نظيره، و يبقى الشعب تائها في ظلمات الفساد.

30. مارس 2022 - 18:48

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا