إن الدعوة لإنصاف بعض المكونات المقصية والمهمشة منذ الاستقلال إلى اليوم ليس ترفا، بل دعوة للتمكين لهذه المكونات الكريمة و سعيا وجيها لرفع الظلم المادي والمعنوي عنها.. ونفض غبار النسيان عن أبنائها...وليس الهدف من رفع الصوت و المطالبة بالانصاف والعدالة و تكافئ الفرص بدافع تأييد أو تأبيد هذه التراتبية المقيتة وإطالة عمرها ، بل نحن الأكثر كفرا بها و سعيا وتطلعا لمحوها واجتثاثها من جذورها ... لأننا نحن ، والجميع يدرك ذلك ، أكثر الناس تضررا منها ومن حمولتها التاريخية الثقيلة و كلفتها الاجتماعية و المعنوية الباهظة ... نحن لسنا من أوجد هذه التراتبية و أصل لها بمقاولات وسرديات تافهة ... و لم يقترف أجدادنا الأوائل جرما في حق هذا الوطن وأبنائه ، بل الكل يعلم أنهم كانوا صناع حضارة ومشاعل علم وسواعد بناء وخلق وابداع و دعاة إلى الله تعالى .
إننا لا ندعو اليوم لا إلى المحاصصة القبلية أو المحاصصة الشرائيحية ، لأنهما بالمحصلة نقيض الدولة الوطنية دولة المؤسسات التي نتطلع جميعا لإنبلاج فجرها ، بل ندعو إلى دولة المواطنة التي يرى كل مواطن موريتاني نفسه فيها .. وفيها ينال حقوقه حسب كفاءته و إخلاصه و عطائه و جهده ...وفي انتظار تحقق ذلك الحلم الكبير فإننا لا نجد من العدل والانصاف إضفاء الدولة المشروعية على المحاصصة القبلية ومراعات البعد القبلي عند تشكيل الحكومات الجديدة ثم صرفها النظر عن حقوق بعض المكونات التي تعاني التهميش والنبذ والاقصاء في قبائلها كمكونة (لمعلمين) التي أتحدث عنها هنا .
إن تجربة ستين سنة من الاستقلال علمتنا أن القبائل الموريتانية لاتدفع بأبناء هذه الشريحة إلى الواجهة لبلوغ المناصب السامية ، ليس لأنهم ليسوا أهلا لها على صعد الكفاءة والتحصيل العلمي و حسن السمت والأخلاق ، بل بحجة أن الوجهاء وشيوخ القبائل يعتقدون أن أبناءهم هم الأولى بتلك المناصب السامية والأحق والأجدر بها دائما ... مما أدى إلى تهميش تراكمي لأبناء هذه المكونة وحرمانهم من الولوج إلى الوظائف السامية في وطنهم مما ولد لديهم حالة من الاحباط المتراكم و انعكس سلبا على طرائق عيشهم حتى وصلوا إلى ما هم فيه اليوم من فقر مدقع و عيش على الهامش مقارنة بمجتمع المركز .
إن الدولة الموربتانية ممثلة في النخب القبلية التي استلمت الحكم من المستعمر الفرنسي ، بعد أن اطمأن إلى قوة ولاء هذه النخب له وخدمتها لمشروعه الاستعماري وحرصها على التمكين لثقافته ... هذه النخب القبلية الحاكمة منذ الاستقلال هي المسؤول الأول والأخير عن تهميش هذه المكونة وغيرها و تكريس و إطالة عمر هذه التراتبية و الشرائحية التي لاتزال قائمة بقوة إلى يومنا هذا ... لقد كرست الدولة العميقة هذه الطبقية أو الشرائحية بشكل ظالم وبغيض على مدى عمر الدولة الموريتانية حتى يومنا هذا ، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تسع الأحزاب الحاكمة منذ حزب الشعب إلى يومنا إلى ترشيح أي عنصر من مكونة (لمعلمين ) لمنصب نائب في البرلمان الموريتاني طيلة ستين سنة إلا مرة واحدة في زمن حكم ولد الطائع (الشيخ سيد أحمد ولد بابه الذي عين وزيرا أيضا)! ، ولم ترشح أي عنصر من هذه المكونة لمنصب عمدة بلدية ولو كانت بلدية ريفية نائية! .. ولم ترشح عضوا لشغل مقعد في مجلس الشيوخ المنحل !.. أو عضوا في المجلس الأعلى للشباب !... وقد ذكرت هذه الحقائق والأرقام الصادمة للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز عندما شرفتي واستقبلني في مكتبه صبيحة يوم 2014/01/06 م وتعهد يومها باتخاذ خطوات ملموسة وقد نفذ بعضا منها دون إبطاء .
فهل يعقل أنه قبل ذلك اللقاء مع ولد عبد العزيز ، إذا استثنينا ولد بابه ، لم يعين من هذه المكونة الكبيرة أحد في منصب وزير أو سفير أو قنصل أو قائم بأعمال... وحتى هذه اللحظة لم نسمع أن أحدا منهم حظي بمنصب مكلف بمهمة لدى الرئاسة أو مستشارا لدى الرئاسة أو الوزارة الأولى أو محافظا للبنك المركزي أو مديرا لاحدى المؤسسات السيادية كشركة "سنيم"مثلا !...رغم أن هذه المكونة ، هي تاريخيا ، من أكثر الشرائح تحصيلا للعلم بشقيه المحظري والنظامي وفيها العشرات من الدكاترة والمهندسين (ولا يحدثك مثل خبير) .
لقد ظننا أن التهميش والإقصاء بات من الماضي بعد خطاب وادان الذي أثلج الصدور و أنعش الآمال بظهور موريتانيا جديدة ، موريتانيا لا تترك مكونة بأكملها على قارعة الطريق ، كما كانت منذ الاستقلال ، إلى أن جاءت الحكومة الجديدة والطريقة التي شكلت بها والحسابات القبلية التي على أساسها عين الوزراء و اعفوا من مناصبهم رغم جليل تضحيات بعضهم فشكل صدمة كبيرة لهذه المكونة الكريمة وأعادتها إلى المربع الأول . ورغم ذلك لم تفقد الأمل بعد بهذا النظام و بما جاء في خطاب وادان الذي حمل بشائر الانصاف والتمييز الإيجابي لكل مهمش ومقصي .
إن مقاربة التمييز الايجابي للمكونات الهشة مقاربة ناجحة وناجعة وقد جربتها دول ومجتمعات كثيرة فكان أن اعطت نتائج إيجابية في وقت وجيز ، ذكر ذلك باني نهضة ماليزيا الحديثة الدكتور مهاتير محمد في أحد أحاديثه حيث ذكر أن هذه المقاربة أسهمت في ردم الهوة بين مكونات الشعب الواحد وسرعت من وتيرة انصهاره ضمن منظومة مجتمع قوي و متجانس الأفضلية فيه بعد التقوى لأصحاب الخلق والابداع و العطاء ... وهذا ما نحتاجه في موريتانيا اليوم قبل غد .. ولله الأمر من قبل ومن بعد .