إن موقفهم ينحرف من أول مرحلة(10)، فيبدوا لهم الدين جراء هذا الموقف الفاسد ـ عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتي بها أعمال اجتماعية فليس لها مثلا أعلى، وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليس من الممكن البحث عن حقائقه، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لان الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها أو يقبلها في شكل ناقص(11) ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق الدين بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة باسم (الدين).
وبهذا يحكم الغرب قبضتهم على الفكر العربي والإسلامي ...
إن الدين إذا جرد عن المدنية- وقد جرد كثيرا- كان دينا ولا حضارة , كان دينا ولا دينا ولا اجتماع, كان دينا ولا حياة.
وكل دين يجرد من الحضارة دين صائر إلى الانقراض, ومصيره الزوال السريع.وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل, فيرضون من الدين بالعقيدة ولا يلحون على مدنية خاصة عي نتاج هذا الدين, ويقتبسون أو يستوردون مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى, وسليلة ديانة أخرى, ونتيجة أحداث وعوامل مرت بها أمة خاصة, أو بلد خاص, فإنهم يفقدون مع الأيام ومع تيار الزمان شخصيتهم, ويفقد الدين الذي دانو به السيطرة على نفوسهم وعقولهم, ويكونون صورة صادقة أو نسخة مطبوعة لأمة التى تطفلوا على مائدتها, واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة , وهذا مانعيشه اليوم واقعا في مدنيتنا المستعارة وأساليب حياتنا..
وبانتهاجنا لهذا المنهج صار لزاما علينا سبر أغوار هذا الفكر والتعرف عليه.أكثر ....يتواصل...
يظهر ذالك من خلال مقارنة بين دلالة الإنسان في النسق الحضاري الغربي مع استحضار أصوله الفلسفية القديمة ومقارنتها بالنسق الحضاري الإسلامي.
وفي سياق النموذجين السرديين المتمثلين في قصتي (روبنسون كروزو) لدانيال ديفو, وجي ابن يقظان ( لابن الطفيل) حيث يغوص العقل الغربي في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة , وعقل يتشوف إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
هذه المقارنة أتى بها المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" للحضارة ووصفها كنسق كلي جامع يحدد عقليتها ونمط رؤيتها للوجود وفي سياق المقاربة بين قصتي روبنسون كروزو وحي ابن يقظان يستنتج التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، حيث ينتهي إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، إذ تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
و هذه الرؤية الكمية لاتبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي الحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية فقد مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أو ديسيوس في ملحمة الأوديسة كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايم وأدرولو بالأدائية.وتمظهرها أيضا في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون.
وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها. ومجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يقتصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا.
كما حرص المنظرين للفكرة الرأسمالية في الخطاب ألحدائي الرأسمالي على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية ـ حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية ـ إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية !. ...يتواصل....