لا شك أن النبرة "المسترجعة" لمنسقية المعارضة الموريتانية، عن طريق حراكها المزمع ـ في هذا الوقت بالذات ـ وإن كان قد أخذ شكلا استعراضيا من كل حزب وكتلة على حدة؛ تعدُ تحولا جديدا في نهجها المعهود وأسلوب تعاملها مع النظام، ليس من باب تغيير الآليات والمطالب، فحسب؛ بل من حيث تسارع وتيرة التظاهرات وتزامن بعضها أحيانا..
ورغم أنه من الصعب على المتتبعين لما يجري على الساحة السياسية استيعاب دوافع تلك الصحوة المفاجئة، ومعرفة مصادرها أو من هم خلفها على الأصح، خصوصا بعد تراجع المنسقية المعلن عن مطلب "الرحيل" واستبداله بحوار شامل يفضي إلى توافق وطني، إبان فترة علاج الرئيس؛ وبعد أن ابتلعت هول "الصدمة" التي سببها ظهور ولد عبد العزيز في أحسن حالاته بالاليزي وما تبعها من مهادنة محتشمة في بعض الأحيان، إلا أن العودة الجديدة وحدة الخطاب وما رافق ذلك من أنشطة وحراك محموم مع ترديد نفس الشعارات، جعل الأمر يبعث على الحيرة ويستدعي التأمل مليا في الدوافع والخلفيات!..
صحيح أن مطلب الرحيل أكل عليه الدهر وشرب، ولم يلقى أذان صاغية من الشعب الموريتاني، كما أن ورقة "الضغط" على ولد عبد العزيز بمشاركته في الحرب على الجارة مالي قطع فيها الشك باليقين؛ وقضايا الفراغ وتعطيل المؤسسات الدستورية ولجنة الانتخابات أمور سدً الطريق أمامها بإحكام، فماذا جد إذا في مسلسل مهاترات المعارضة وأي موجة يركبون في هذا الظرف بالذات، دون أن ننسى التساؤل الأهم من هم حلفاء المنسقية الجدد وإلى ماذا يطمحون؟!
قد نتفق جميعا على أن البلاد ليست في أفضل حالاتها، اقتصاديا ـ على الأقل ـ وأسباب ذلك واضحة للعيان ولسنا بحاجة للغوص فيه؛ لكننا لا نتفق على موريتانيا تتخبط في "أزمة" خانقة تهدد كيانها ومستقبل أبناءها في أي مجال، باستثناء قضية أطلق البعض عليها اسم أزمة "الضرائب" مع أنها في الحقيقة من اختصاص القضاء قبل أن تكون مادة سياسية دسمة تتخذ منها المواقف وتتغير معها الحسابات، رغم أنه ما من أحد أيا كان في موريتانيا أو خارجها له علم مسبق بأبسط تفاصيلها!، وهنا يكمن منبع الخطر ومبعث الاستغراب؛ فحين تستخدم ورقة "ضغط" على الخصوم دون معرفة حيثياتها ولا حتى استشارة أصحابها تصبح الوضعية بذلك مدعاة للقلق والتخوف قبل أن تكون وسيلة مستباحة لتوجيه السهام نحو الأعداء، وهذا تماما و ـ للأسف الشديد ـ ما ذهبت إليه معارضتنا المحرمة، أو معارضة النظام إن صح التعبير.
تعلمون جيدا أن منسقية العارضة الموريتانية وهي على بعد أيام قليلة من تخليد مرور عام كامل على مطالبتها برحيل الرئيس محمد ولد عبد العزيز؛ قدمت الغالي والنفيس من اجل إسقاط ربيع بعض الدول العربية على موريتانيا وفشلت في ذلك فشل ذريعا وبشهادة الأنصار قبل المناوئين، ما دفع معظم قياداتها للبحث عن البديل إبان إصابة الرئيس بطلق ناري نهاية العام المنصرم؛..
فقد دفعتها رغبتها الجامحة في التخلص من ولد عبد العزيز للعب على أوتار "الفراغ" وتأنيب العسكر وإقناع الرأي العام بأن عزيز بات من الماضي. وقتها ظهر معسكر ثالث ومن داخل أغلبية الرئيس نفسه تولى مهمة إطلاق الشائعات وأوجد لنفسه مكانا وإن كان ذلك من تحت التراب مع أقطاب المعارضة نفسها ليبدأ الجميع بعد ذلك في سياسة تحسس معالم الطريق في ظل نهاية "متوهمة" لولد عبد العزيز ونظامه، لتدخل منسقية أحزاب المعارضة في حلف غير معلن مع وجوه كانت بالأمس القريب "أبواقا" قاتلت بإستماته عن النظام وبرنامج رئيس الجمهورية.
ومع أن حقيقة تحالفات المعارضة هذه وإن كانت "صادمة" لبعض مناصريها، الا أنها لم تضع في الحسبان ترتيبات ما بعد عودة الرئيس من إصابة اطويلة؛ خصوصا في ظل وجود أغلبية بهرت بشفاء الرئيس واستعادته لقواه ومن ثم شروعه مباشرة في مزاولة مهامه، حينها وجدت المعارضة نفسها بين خيارين أحلاهما مر، إما الاصطفاف بجانب أحزاب المعاهدة والقبول بمبادرة الرئيس مسعود، وهي التي سببت حرجا كبيرا لقادة المنسقية لعجزهم عن تقديم البديل؛ أو العودة إلى المطلب الأول، وإن اختلفت الأساليب والآليات.
الغريب في حراك المعارضة الجديد ليس تزامن أنشطتها ولا انفراد أقوى أقطابها بمهرجانات ومسيرات خاصة بكل حزب على حدة، بل مصدر تمويلات تلك الأنشطة والتي تقدر بالملايين مع العلم بأن رحلات قادتها المكوكية إلى الخارج تحتاج هي الأخرى إلى مبالغ مالية هائلة، ومع تلك الموارد الكبيرة والتي وضعت رهن تصرف قادة المنسقية بهدف التصعيد وتضييق الخناق على نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز رغم التفاف معظم الموريتانيين حوله ومباركتهم لبرنامجه الذي انتخبوه على أساسه، بيد أن المثير للجدل هو سعي تلك الأقطاب للتأزيم وتأجيج الوضع كلما ظهرت بوادر انفراج وكأن قدرنا كموريتانيين أن نظل في وقودا يقتات عليه تجار المصالح الضيقة وسماسرة المواقف والقناعات، بدل أن يعملوا للتنمية شعوبهم وبناء أوطانهم.
سيدي محمد ولد محمد المختار