مرة أخرى يعود الحديث حول فقر البلد من طرف أعلى قمة في هرم السلطة ، ولا مشكلة في ذلك نحن بلد فقير دعونا نتفق مؤقتا على هذه النقطة ، برضانا جميعا أو على مضض من طرف البعض.
قبل هذا بحوالي أسبوعين وخلال متابعتي لخطاب الرئيس أمام دفعة خريجي المدرسة الوطنية للإدارة كنت أردد كتعويذة مقدسة مقولة الفيلسوف أرسطو (يسهل خداع الشباب لأنهم يستعجلون الأمل) ، أما الشيب وذوو النضج والتجربة عندنا ممن خاضت سفنهم في كل البحار ، وعرفوا الوجه الحقيقي للأشياء ، ولم يعودوا في عجلة من أمرهم ، وتعود أغلبهم أن يرضى من غنيمته بالإياب فلم أتوقع إلا أن يكونوا قد اكتسبوا مناعة ضد كل ذلك .
في كل الأحوال (من يبني آماله على الأوهام يجدها تتحقق في الأحلام) كما يقول الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير.
إننا نتيه ونبتعد عن أهدافنا أكثر فأكثر يوما بعد آخر ، ولكن على الأقل لا غرابة في تشبثنا بالأمل والابتسامة ، ورغبتنا الصادقة في أن يغير النظام الحالي ولو قليلا ، مسترشدين بمثل تركي قديم إن (من يسقط في النهر يتمسك بالأفعى) ، وبمقولة أخرى للأديب والروائي نجيب محفوظ (المعاناة لديها جانبها من الفرح ، واليأس له نعومته ، والموت له معنى).
إن لقاء الرئيس الأخير مع رجال الأعمال والفاعلين الاقتصاديين المحليين يأتي في ظرفه المناسب تماما ، لقد تم عرض بعض المشاريع الهامة خاصة في مجال الأمن الغذائي ، وأعتقد جازما أن هذا الميدان يجب أن يتصدر الاهتمامات ، وأن يحظى بالدعم والتسهيلات والرعاية من طرف الحكومة ، وإن كلف ذلك ثمنا باهظا إلا أن نتائجه المأمولة تستحق تلك التضحيات .
إن العالم مقبل على اضطرابات ومشاكل وأزمات غير مسبوقة ، لقد بدأ شبح الغلاء والجوع يخيم في الأفق ، وسيكون الحصول على رغيف الخبز شاقا ومكلفا بعد الآن ، يقول مثل فارسي قديم إن (الموت من الجوع أفضل من العيش مدينا) ، ويضيف مثل فرنسي شهير آخر (عندما يدق الجوع الباب يهرب الحب من الشباك).
نحن لا نريد على هذه الأرض أن نظل مدينين بقوتنا لغيرنا ، أو أن نخسر الحب والتقدير ، تقول القديسة تريزا الأم الحاصلة على جائزة نوبل للسلام سنة 1979 (يوجد جوع للحب والتقدير في هذا العالم أكثر من الجوع إلى الخبز).
من حسن حظنا في هذا المجال أننا لسنا مطالبين بإطعام عشرات ولا مئات الملايين بل مجرد أربعة ملايين ، رقم صعب بالمقارنة مع مقدراتنا وطاقاتنا ولكنه ليس مستحيلا أبدا .
إن تخصيص رقم معتبر من الميزانية لتطوير الزراعة ، وتوفير الخبراء والمرشدين الزراعيين ، وتطوير المعاهد خاصة المعهد العالي للتعليم التكنلوجي بروصو ليس ترفا في وقتنا الراهن ، بل ضرورة ملحة جدا .
نقترح بهذا الخصوص إنشاء لجنة عليا مستقلة لجرد ومتابعة المشاريع الزراعية على عموم التراب الوطني ، وتقديم الاستشارات ، ومتابعة التكوين والدعم المرهون بمردودية هذه المشاريع في سد احتياجاتنا الغذائية .
المحاصة:
إن المحاصة المقيتة قبلية كانت أو إثنية أو جهوية ليست وليدة اللحظة ، ولم يسلم منها نظام منذ إنقلاب يوليو 1978 ، هل يعني ذلك أن الراحل المختار ولد داداه الوحيد الذي لم يكن يعتمد هذا النهج؟
الجواب هو لا مع الأسف.
كانت المحاصة على عهد الرئيس المختار تمارس ولكن بشكل مدروس وذكي ، ويقال إن الوزير أحمد ولد محمد صالح الذي قضى وقتا طويلا في وزارة الداخلية كان يتمتع بمهارات خاصة في هذا المجال ، أضف إلى ذلك قلة القبائل التي تحتكر السلطة آنئذ ، ومحدودية الخيارات داخلها نسبيا نتيجة لندرة الكفاءات ، ما يجعل الأمر حينها أسهل بكثير على النظام من جميع النواحي.
يكفي أن نعلم أن القبائل الممثلة على المستوى الوزاري في موريتانيا من سنة 1959 حتى 1978 عددها كان لا يتجاوز 23 قبيلة ، في حين سيرتفع هذا الرقم إلى 32 بين سنوات 1978 و 1986 ، واليوم لا نملك إحصائية دقيقة عنها ولكن الرقم تضاعف مرات بكل تأكيد ، وما زالت هكذا حسابات تتم مراعاتها في الحكومات المتعاقبة بكل أسف.
وقد طالعت قبل أيام بيانا ممهورا باسم إحدى القبائل تشكو التهميش ، إنها مهزلة حقا يجب أن يتم وضع حد لها بالاعتماد على الكفاءات ، والتوقف عن دعم وتشجيع هذه الممارسات الضارة حقا بالبلد ومستقبله وانسجامه وكينونته.
إن الانقلاب العسكري على الرئيس الأول ـ وإن كان لامناص منه لإنقاذ البلد من فخ حرب الأشقاء كما يقال ـ إلا أنه ترك آثارا سلبية في البعد السياسي على شتى المناحي ، يكفي أن نعلم أن حلم الديمقراطية ودولة المؤسسات التي وعد بها العسكر لم تتحقق إلا خجولة ذابلة مسلوبة من مضامينها ، وبعد سنوات من التسويف والاضطرابات والاستقطاب الخارجي المتغير .
ثم إن حل حزب الشعب والجمعية الوطنية غداة الاطاحة بنظام المختار تركا فراغا في الحياة السياسية سيتم تعويضه تلقائيا بالرجوع إلى البنيات التقليدية ، والتحالفات التي كانت قائمة قبل ذلك ، وكانت القبيلة هي أكبر مستفيد من هذا المعطى الجديد.
زد على ذلك الدعم اللامشروط الذي قدمه الوجهاء الساخطون على سياسات المختار شبه الاشتراكية ، وإدماجه لليسار المعارض ابتداء من عام 1975 ، مع ذلك يجب هنا أن لا ننسى أن الانقلاب حمل قوى ذات توجه يساري في أغلبها ولا أدل على ذلك من الزعيم الحقيقي للانقلاب العقيد جدو ولد السالك القومي ، بل البعثي تحديدا إن كان لابد من هكذا تفصيل ، إلا أن أغلب عناصر وقيادات الجيش كانت لا تحمل عقيدة محددة فعادت أغلب الممارسات المكرسة لطغيان الواقع القبلي.
هل يعني ذلك إعفاء الراحل المختار من تحمل أي مسؤولية تاريخية في هذا المسار ، لا طبعا ، فالراحل يؤخذ عليه تكريسه للحزب الواحد في الحياة السياسية ، وعدم سعيه لإيجاد أي نوع من أنواع التناوب على السلطة في البلد ، وتلك مسألة أخرى .
لم تفلح محاولات هيداله في التخندق خلف شعار الدين والهياكل ، ولا ولد الطايع خلف الحداثة والديمقراطية والحزب الجمهوري فظلت القبلية هي المعطى الثابت والمتجدد في أشكال وألوان عديدة على حساب المفهوم الحقيقي لترسيخ دولة المواطنة والقانون .
إن من الإنصاف القول بأن المحاصة كانت تمارس بحياء في عهد الرئيس المؤسس ، وبدأت من بعده شيئا فشيئا تتعزز وتتكشف حاسرة خالعة عنها كل أثواب الحياء والوقار.
إن أمة تائهة في القرن الحادي والعشرين ، وحبيسة لبنيات صنمية متوارثة من التوازنات القبلية والفئوية على حساب الكفاءات ، ستبقى تنزاح أكثر فأكثر عن آمالها ، وستظل لسوء الحظ بعيدة كل البعد عن التنمية والعدالة والمساواة ودولة القانون .
التراتبيات الاجتماعية والأنماط والأنساق الكلاسيكية المتوارثة ستبقى فينا على حالها ، وستتعزز أكثر يوما بعد يوم الممارسات الضارة من رشوة ومحسوبية وزبونية ، ما يهدد إستقرار الدولة ويضع في مهب الريح كل آمالها المشروعة في النهوض .
التعديل الأخير:
يتندر البعض بأن الحكومة الثانية للوزير الأول محمد ولد بلال تشبه عملية تحديث تلقائية وبدائية لهاتف جوال في سوق "نقطه ساخنه" ، عن طريق إيقاف تشغيله لثوان بلمسة زر ثم إعادته مجددا للعمل بلمسة أخرى لا أكثر .
ولئن كان قرب هذا السوق الشعبي المزدحم من القصر لا يمكن أن تخطئه عين الناظر ، إلا أنه من وجهة نظر الكثيرين سوق سيء الصيت يعج بمغامرات النشل واللصوصية والخداع والتدليس التي يتم التعبير عنها بشكل أدق بالمصطلح الشعبي الدارج "التملاح".
ودون كبير تحفظ يمكن القول إن التعديل الأخير نزع الثقة ممن يستحقون ، وجددها في من لا يستحقون ، وجاء بأسماء جديدة أقل ما يقال عن أغلبها إنهم بعيدون كل البعد عن مجالات تعيينهم وتطلعات المواطن المتعطش للتغيير بخبرات وكفاءات حقيقية ، إنها كارثتنا الأبدية ، كأن الكاتب الآمريكي ديفيد جيرولد يقصدنا بقوله إن (قلة الكفاءة تغذي نفسها).
إن التوليفة الجديدة أشبه بحكومة انتخابات صاغتها يد غير متقنة لحرفتها بعد ، ولم تخلو من مجاملات وإكراميات لأشخاص بعينهم ، وعودة مشهودة للمعسكر القديم وفرسانه الأشاوس .
إقالة وزير الصحة وسلفه نذيرو ولد حامد قبل ذلك ليست مقنعة أبدا ، خاصة عندما يتم الزج في كرسيهما باسم غريب على الصحة لا هو في عيرها ولا في نفيرها.
أما الخطأ الأكبر فيمكن الاستدلال عليه هنا بوزيرة التعليم العالي السابقة التي لم تحظ بتجديد الثقة فيها رغم ما بذلته من جهد مشهود في قطاعها لحلحلة الكثير من المشاكل ، والملفات المنسية والمغيبة ، وقربها من العامة والطلاب والنقابات ، ورغم نأيها بنفسها عن مافيات الفساد والمحسوبية التي تنخر في جسد هذه الوزارة إلا أنها في الأخير نالت جزاء سنمار.
تذكرنا تضحيات هذه الوزيرة ببدايات والدها الرئيس الراحل المرحوم سيد محمد ولد الشيخ عبد الله ، ولمن لا يعرفونه إلا من خلال مغامرات السياسة المضطربة خلال أعوام 2006-2007-2008 نذكرهم أن هذا الرجل الذي دخل الحكومة الموريتانية كوزير دولة مكلف بالاقتصاد من سنة 1971 إلى سنة 1978 كان حينها من ألمع الشباب الموريتاني التكنوقراط ، وكان مهندس الكثير من القرارات المصيرية في تاريخ الدولة الموريتانية ، ومن أبرز تلك القرارات ؛ المراجعة الشاملة للاتفاقيات الأمنية مع فرنسا ، وإنشاء العملة الوطنية.
إن استبعاد وزير الخارجية من منصبه يبدو محيرا هو الآخر ، فالرجل دبلوماسي مرموق ، وإن كان ولا بد من استبداله فكيف لا يتم الانتقاء في الكفاءات الموجودة ، ولن يعوز الخيار.
تلك مجرد أمثلة طفيفة أما الخيارات اللا موفقة بين أعضاء هذه الحكومة فيعوزنا حصرها ، ونرجو أن يثبت العكس ، وأن يكون تشاؤمنا لا محل له من الاعراب.
قد يكون اختيار محافظ البنك المركزي خيار موفق خاصة في هذا الظرف بالذات ، إذا كنا بالفعل ندرك حساسية تسيير البنوك المركزية التي قال عنها محقا الرئيس الروسي الحالي السيد بوتين ( البنك المركزي لديه الكثير ليتعامل معه ومن الأفضل عدم التدخل في اختصاصاته).
إن استبعاد أي كفاءة مهما كانت مشهود لها بالترفع عن الشبهات هو عمل فيه محاباة لما يعرف عندنا ب"الدولة العميقة" ، وهو مؤشر على زيادة سيطرة المافيات والسماسرة مستقبلا أكثر فأكثر على الوزراء وكبار الموظفين وتوجيههم ترغيبا وترهيبا ، وهو أمر أقل ما يقال عنه إنه لا يبشر بخير على الإطلاق.
وبالمحصلة وأثناء بحثنا عن الموظفين الأكفاء لتسيير الشأن العام يجب أن نتوقف عن خلطنا المتعمد بين الكفاءة والولاء، الكفاءة أولا، ثم إن الولاء يكفي للوطن والدستور والقانون ، هذا إن لم نكن مسترشدين بنصيحة القائد الديني الأعلى للبوذيين التبتيين الراهب الدالاي لاما ( الغضب والكبرياء والكفاءة أعداؤنا الحقيقيون).