حين ننطلق من القاعدة المعروفة بأن "خدمة المواطن هو مبرر وجود الحكومات" وإقالة أي حكومة تعني أنها لم تكن حكومة خادمة للمواطن، وحين نعيد قراءة خطاب رئيس الجمهورية يوم 24 مارس المنصرم بالمدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء، وما سبقها من معاناة للمواطنين في جميع المجالات وتردي أداء أغلب القطاعات الحكومية، بل واستشراء الفساد والمحسوبية وإيثار الأقارب والمعارف والمصالح الشخصية على حساب قيم دولة القانون والمؤسسات فإننا قد نستوعب جزئيا أسباب إقالة 15 وزيرا من الحكومة السابقة، واستبدالها بعناصر جديدة، لكن ما لا يمكن أن يستوعبه المتعطشون للقطيعة مع الماضي بكل ما فيه من سوء هو الإبقاء على بعض وزراء الحكومة السابقة مع فشل أغلبهم في تسيير القطاعات التي يتولونها أو كانوا يتولونها، خاصة إذا علمنا أن بين المكلفين حاليا من حامت حولهم شبهات فساد في الآونة الأخيرة، وآخرون كان تسييرهم "غير موفق" للقطاعات التي تم تحويلهم عنها إلى قطاعات أخرى، فلماذا لا تتم القطيعة كليا مع رموز الشبهة مهما كان وزنهم وتأثيرهم القبلي والسياسي والإثني والشرائحي ... إلخ. ويبقى السؤال الملح مطروحا: هل يأتي التعديل الوزاري الجديد بجديد، ويحدث قطيعة كلية مع الفساد والزبونية والمحسوبية وهل تعمل الحكومة الجديدة على خدمة المواطن بالفعل لا بالشعارات؟
إعادة الثقة للوزير الأول ؟!
قد لا يكون الوزير الأول من أسوأ من تولوا هذا المنصب، حيث يشهد له الكثيرون بقدر كبير من الاستقامة والنزاهة، ولكن هل يفتقر إلى الصرامة والجرأة المناسبة لفرض التغيير وإملاء أوامره على أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين؟
أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال ستحيلنا إلى بعض الملفات التي اطلع عليها الوزير الأول محمد ولد بلال ولم يتحرك فيها بالصرامة المطلوبة، سواء تعلق الأمر بفرض تنفيذ أحكام قضائية صادرة ضد بعض الوزارات لصالح بعض المواطنين، أو بملفات ظلم وزبونية مكشوفة لم يأمر فيها بالعدل والإنصاف، وقد وصلته تظلمات من وزراء في قضايا عديدة من هذا القبيل لكنه لم يعالجها بما يوحي بقدرته على فرض إرادة دولة القانون والمؤسسات التي طالما رفع شعارها. وفي المقابل اكتفى ولد بلال بإصدار "تعميم" يدعو الوزراء إلى احترام الأحكام القضائية وتنفيذها لكنه لم يتابع ذلك بما يضمن فرض ذلك الاحترام.
فهل يعالج الوزير الأول تلك "الاختلالات" في تعاطيه مع مختلف الملفات التي تكون الإدارة فيها طرفا ظالما والمواطن طرفا مظلوما؟ أم أن "الاعتبارات الأخرى" هي الحكم والفيصل في تعاطي معاليه مع مختلف تلك الملفات؟
وزراء عادوا من بعيد، وآخرون استعيدوا ؟!
من نافلة القول أن إعادة الثقة لبعض الوزراء من عهود سابقة، ومن الحكومة المنصرمة، مع كل المآخذ المسجلة عليهم، تلغي أهمية الكفاءة، لأن "أصحاب السوابق" في سوء التسيير وفي التعاطي السيئ مع مختلف الملفات مهما كانت أهميتها يعكس "عقم البلد" عن إنجاب كفاءات نظيفة، أو هكذا سيتصور المراقبون حين يسمعون عودة فلان أو علان إلى الحكومة وقد كانت لمساته الخشنة في الحكومات والعهود السابقة كافية لمحاسبته وليس لمكافأته وإعادة الثقة في شخصه، فهل تظل الاعتبارات "الخاصة جدا" ذات أهمية كبيرة لدى صانعي القرار وإلى متى؟ وكيف ومتى يتم إقصاء كافة المعايير التقليدية في الانتقاء والتوزير والتكليف؟!
إن إعادة الثقة في وزراء فاسدين لمجرد أنهم ينتمون لجهة أو مجموعة أو شريحة، أو لأن بعض النافذين يصرون على بقائهم، يعني بكل بساطة أننا ما زلنا بعيدين تماما عن بناء دولة القانون والمؤسسات المنشودة حيث تتم محاسبة كافة المسؤولين ومقاضاتهم على كافة أشكال الفساد وسوء التسيير والظلم والغبن، وهو ما سيأتي جيل جديد يؤمن بموريتانيا الحديثة، يطبقه حرفيا ولا يهمه إن كان هذا الوزير أو المسؤول ابنه أو شقيقه أو خاله أو عمه أو أو ... ساعتها فقط يمكننا الحديث عن دولة المؤسسات. ولا شك أن هذا الجيل بدأ يستعد لاستلام مهام تسيير بلده وترشيد ثروات الوطن وخدمة المواطنين، وهو جيل يمثل موريتانيا كلها وبكل تفاصيلها.
صراع اللوبيات
وبدون رتوش يمكننا القول إن بصمات صراع اللوبيات داخل النظام بدت جلية في تشكيلة الحكومة الجديدة، حيث تتصارع لوبيات نافذة داخل السلطة ولكل منها رأيه "المسموع" وقوله "المعتبر" ولا يمكن بأي حال تمرير حكومة أيا كانت لا توجد له بصمات وتمثيل فيها.
والحقيقة أن البلد ورث هذه الصراعات منذ انقلاب 1978 على الرئيس المؤسس المختار ولد داداه، وهو صراع سيتواصل إلى أن يتم فرض احترام دولة القانون أو تقاعد جيل اللوبيات الذي لن يستنكف عن توريث صراعاته لآخرين من المقربين الذين يدفع بهم للواجهة في كل تعديل جديد.
وربما يكون التأخير في إعلان الحكومة ناجم عن انتظار إرضاء كل طرف، خاصة وأن المعلومات المتوفرة حتى الآن، على شحها، تؤكد أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هو مرشح "الأغلبية" لمأمورية جديدة بعد انتهاء مأموريته الحالية، لذلك تم وضع بعض الترتيبات واللمسات الضرورية في تشكيلة الحكومة الحالية استعدادا للمرحلة المقبلة.
حكومة المواطن ؟
ويأمل المواطنون في أن تصريحات رئيس الجمهورية والوزير الأول المكلف، حول تعيين حكومة قريبة من المواطن، قد تكون بداية لحد أدنى من التعاطي الإيجابي مع هموم المواطنين ومعاناتهم، ليس فقط في مجال ارتفاع الأسعار والبطالة وتدنى الرواتب بل في قطاعات الصحة (تدني الخدمات واختفاء الأدوية من السوق وتراجع الرقابة على الجودة) وقطاع التعليم وما يعانيه من اختلالات جمة وقطاع الثقافة والشباب والرياضة والإعلام وما يعانيه من اختلالات جوهرية عجزت الحكومات المتعاقبة عن إيجاد حلول جذرية وناجعة لها، فضلا عن مختلف القطاعات الخدمية الأخرى إلى جانب توفير الأمن ومواجهة الجريمة داخل البلاد وعلى الحدود، دون أن ننسى غياب استراتيجية فعالة تمكن المواطن من استعادة ثرواته السمكية والاستفادة منها بأسعار رمزية واستغلال موارده الزراعية وثروته الحيوانية بما ينعكس إيجابا على المستوى المعيشي وعلى الاقتصاد الوطني ... إلخ
فهل تعمل حكومة ولد بلال "الثانية" على إنجاز ما عجزت عن تحقيقه في عهدتها السابقة؟