وهذا ما نراه أيضا عند السيسيولوجى الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق لبروتستانتية» حيث يؤول شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج «الإنسان الاقتصادي» ومحدد لنمط الحضارة الرأسمالية.
مما سبق نجد أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملامح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل.
لكن الإنسان بفطرته ـ ليس مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه فقط.
. وهكذا حيثما اتجهنا وجدنا من الشواهد ما يكفي للدلالة على أن عدم تبديل المقاربة الأدائية المادية لنمط رؤيتها لماهية الإنسان إنما هو ناتج عن عدم انتباهها لمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية!!
وإذا كنا اليوم نعيش في عصر أخص صفاته أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء وأنه ليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون دائما نافعة كالأشياء فإنه لزاما علينا أن نتوخى الحظر في هذه الأفكار، خاصة وأن مصدرها هو الغرب الذي ينظر إلى الإنسان كحيوان اقتصادي محكوم بمعايير الحساب النفعي، أي بمنطلقه الخاطئ المحكوم بالرؤية المادية الكمية كما تقدم ذكره(12) وهو المنطلق الذي لا نكاد نخرج من الإشارة إليه في بحثنا هذا إلا لنعود إليه وكأننا في دائرة مغلقة فهل إلى الخروج من سبيل؟! يقول (نور ثروب):
«كيف ستؤثر ـ يريد نظرية الكم في مناطق العالم الأخرى ـ هذه الطريقة الجديدة في التفكير التي أنشأها الغرب الحديث ؟!!
لقد عالج (هايزنيرغ) هذه المسألة في بدء حديثه وفي ختامه فالطريقة الجديدة في التفكير ستؤدي كما بقول المؤلف، وسواء شئنا أم أبينا، في تغير أو تدمير جزئي في عاداتنا التقليدية وفي قيمنا الأخلاقية(13).
فكثير من قادة الشعوب في العالم غير الغربي، وكذلك غالبية مستشاريهم الغربيين يرون أن مسألة إدخال الآلات العلمية وطرق التفكير الحديثة إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا لا تعدو منح هذه المناطق استقلالها السياسي، ومن ثم تزويدها بالأموال والآليات اللازمة.
لكن هذا الافتراض السهل يهمل عدة أمور:
ـ أولها أن أجهزة العلم الحديث مستمدة من نظرياته، وتتطلب لإتقان صنعها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألفته الأسرة والطائفة والقبيلة من عقلية وقيم سائدة لدى شعوب آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وقد تتعارض معها في بعض الأمور.
وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يستورد آلات الفيزياء الحديثة دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية(14) باستحواذها على تفكير الشباب العلمي تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الفيزياء الحديثة ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم فلسفة الفيزياء الجديدة..
لكن المرء قد سأل : ألست الفيزياء مستقلة تماما عن الفلسفة ؟! ألم تعزز الفيزياء الحديثة فعاليتها إلا بهجر الفلسفة ؟!
إن (هايزنبرع) يجيب بكل وضوح عن كلا السؤالين بالنفي ... فلماذا ؟
لقد ترك (نيوتن) انطباعا بأن فيزياء خالية من الفرضيات التي لا تستلزمها المعطيات التجريبية. وهذا يتضح من إدعائه بأنه لم يضع أية فرضية وإنما استنبط مفاهيمه الأساسية وقوانينه مما وجده في تجاربه فإذا صح رأيه هذا في العلاقة بين الأرصاد الفيزيائية التجريبية وبين نظريته، فإن نظريته لن تحتاج أبدا إلى تعديل، ولا يمكن أن تنطوي على أية نتائج لا تؤكدها التجربة، أي أن اتفاق الوقائع معها يجعلها نهائية وخارج نطاق الشك»(15).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نقبل هذه النظريات كما هي عليه في كشوف أصحابها؟ أليس من حقنا أن نحاول التعرف عليها على ضوء بناء هذا الوجود ؟!!
سنحاول أن نجيب على هذا السؤال مستعينين بنظرية جديدة للعلامة محمد عنبر ...
إن الكلمة ـ أي كلمة ـ يقوم فيها ذلك القانون الوحيد الشامل الذي تجري أشياء الوجود وفاقا له ألا وهو قيام الزوجين النقيضين في الآخر من كل شيء من أشياء هذا الوجود..يتواصل....