مزالق قياس الشاهد على الغائب .. / محمد سالم الشيخ ‏

يقع الكثير من الباحثين و الدارسين في مزالق عقدية كبيرة نتيجة الآلية  الذهنية لديهم و لدى جل الفرق الإسلامية  القائمة على قياس الشاهد على الغائب و التي يلجأ لها العقل عندما يجد بعض الأسماء و الصفات و الأفعال التي تفيد تشبيه الله تبارك و تعالى بصفات و أفعال بشرية مع أن المقرر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ  وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى 9 ، يعمدون إلى قياس الشاهد على الغائب و ذلك لتقريب الفكرة و شرحها و تقديمها في ثوب معقول و قابل للتصديق ، إلا أن هذه الآلية تنقلب ضدا على ما يراد لها فتصبح عائقا أمام كل تصور مجرد ، بل تؤدي إلى المبالغة في التشبيه و هو من مزالق العقل و من محذورات العقيدة فالمبالغة في قياس الغائب على الشاهد تؤدي إلى تشبيهه به و تصوره مثالا له و قياسا عليه.
(لقد اعتمد المتكلمون، ومن بينهم الأشاعرة مسلكا رئيسيا في الاستدلال؛ هو الاستدلال بقياس الغائب على الشاهد، و المقصود بالشاهد في علم الكلام؛ أنه هو المعلوم بالحس أو باضطرار، وإن لم يكن محسوسا. و المقصود بالغائب؛ أنه هو ما غاب عن الحس، ولم يكن في شيء من الحواس.
والاستدلال بالشاهد على الغائب في اللغة يُقصد به – كما ورد في أغلب الدراسات حوله- أنه استدلال بما يشاهده الحس على ما لا يشاهده؛ أي أن الشاهد يدل لغة على الحاضر أمام الحس والعين، وأن الغائب هو مقابل للشاهد؛ يدل على اللامحسوس واللامعاين.)
و قد اعتمد الفقهاء هذا القياس في جملة من المسائل الفقهية قبل أن يعاد استخدامه من طرف المتكلمين مع فارق بسيط بين الاستعمالين ( فالقياس الفقهي مشروع ومبرر تماما مادام الأصل والفرع مشتركين في الوصف المؤثر في استحقاق الحكم , ولدينا الوسائل المختلفة لاختبار تحقق هذا الوصف فيهما , فيما يعرف (بمسالك العلة) أما بالنسبة للمسائل الإلهية فكيف يمكن التحقق من اشتراك الغائب والشاهد في وصف يعمهما أو في حكم يترتب على ذلك؟ و هل يجوز للعقل أن يطبق المقولات الإنسانية في ذات الله تعالى وما يتصل بها من صفات وأفعال؟ تلك هي أزمة هذا القياس الكلامي ومع ذلك فقد استخدمه المتكلمون بعد أن استعاروه من أصول الفقه ).
و قد أدى هذا القياس بالمتكلمين إلى القول ببعض الآراء التي بدت مخالفة للعقيدة الصحيحة عندما غالوا في التعصب لهذا القياس و عمموه على جميع المسائل ، يقول الجرجاني: وإنما يسلكونه إذا حاولوا إثبات حكم لله تعالى فيقيسونه على الممكنات قياسا فقهيا ويطلقون اسم الغائب عليه تعالى. وقد شاع استخدامه لدى مختلف المدارس الكلامية: فالحشوية القائلون بأن الله جسم يعتمدون على أن كل موجود في الشاهد فهو كذلك.
والمعتزلة – المشهورون بالتنزيه - أخذوا به فيما يتعلق بأفعال الله تعالى فحكموا بحدوثها وأوجبوا عليه بعض الأمور طبقا لقواعد التحسين والتقبيح الإنسانية .
ومع ذلك فهم لا يسرفون في استخدامه في مجال الصفات إسراف الأشاعرة الذين يعترف بعضهم بذلك , و الآمدي يحكي " اتفاق الأصحاب على إلحاق الغائب بالشاهد ". ولكنهم بدورهم يقللون من استخدامه بالنسبة لأفعال الله تعالى بعكس المعتزلة. 
هذا الإسراف في استخدام قياس الشاهد على الغائب هو ما يقوم به بعض الباحثين اليوم معيدين طرح بعض الإشكاليات التي تقدم طرحها كما تقدمت الحلول العقلية لها ، دون أن يكلفوا أنفسهم الاطلاع على الموروث الكلامي الغني بهذه المسائل ، و دون أن يتسلحوا بالنظر العقلي و المنطقي الذي تسلحت به الفرق الكلامية و خصوصا المعتزلة ، الذين نفوا عن الله كل ما يفيد التشبيه بخلقه مهما كان ذلك ، و ذلك من أجل تنزيهه عن الشبه بغيره ، حتى وصفوا بالمنزهة ، إلا أن هذا التنزيه أدى بهم إلى التعطيل و هو إنكار الكثير من صفات الله و أسمائه و أفعاله ، فكل ما أفاد التشبيه نزهوا عنه الله تبارك و تعالى ، علما أن الآلية الأساسية في التشبيه هي القياس الذي تكلمنا عنه ، كما ألزموا الله تبارك تعالى علوا كبيرا بوجوب اختيار الأحسن لعباده ، و أنه لا يمكنه اختيار الأقبح و المحاسبة عليه و هي المقولات التي أدت بالمعتزلة إلى الإفراط في استعمال العقل ، و اعتماده الأساس في التشريع فكل ما وافق العقل عندهم فهو حق ، و كل ما خالفه أو توهموا مخالفته يعتبرونه باطلا ، دون أن يكون هناك تحديد واضح و متفق عليه لهذا العقل و لعل مناظرات أبي الحسن الأشعري مع شيخه أبي علي الجبائي تدل على محاولة تحديد حدود لهذا العقل و إيجاد مجال له للتدخل .. في إحدى المحاورات عن وجوب اختيار الأصلح للعباد يقول :
الأشعري : أتوجب علي الله رعاية الصلاح أو الأصلح في عباده؟
أبو علي : نعم.
الأشعري: ما تقول في ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمناً برّاً تقياً، والثاني كان كافراً فاسقاً، والثالث كان صغيراً فماتوا; كيف حالهم؟
الجبائي: أمّا الزاهد ففي الدرجات، وأمّا الكافر ففي الدركات، وأمّا الصغير ففي أهل السلامة.
الأشعري: إن أراد الصغير أن يذهب إلي درجات الزاهد هل يؤذن له؟
الجبائي:لا، لأنّه يقال له: إنّ أخاك إنّما وصل إلي هذه الدرجات بسبب طاعاته الكثيرة، وليس لك تلك الطاعات.
الأشعري: فإن قال ذلك الصغير: التقصير ليس منّي، فإنّك ما أبقيتني ولا أقدرتني علي الطاعة.
الجبائي: يقول الباري جلّ و علا: كنت أعلم أنّك لو بقيت لعصيت،وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك.
الأشعري: لو قال الأخ الكافر: يا إله العالمين، كما علمت حاله فقد علمت حالي، فلم راعيت مصلحته دوني؟
الجبائي: إنّك مجنون.
الأشعري: لا بل وقف حمار الشيخ في العقبة!!
رد الأشاعرة على مبادئ المعتزلة الخمسة و دفعوا الحجة بالحجة و أبانوا تقعر و إخفاق المذهب التي يعتمد العقل كآلية وحيدة في العقيدة  تهمل النص الذي يلعب دورا مهما و محددا في صياغة الأمور العقدية ، فلو لم يكن هناك نص هل كان العقل سيكتشف هذا الدين و هذه العقيدة.فالعقل يجب أن يلعب دورا قبل ورود السمع ( النص ) ، أما لو ورد السمع فعلى العقل أن يفسر و يشرح و يندغم مع النص و ليس له أن ينكره و يسخر منه و يعتبر النص أو بعض النصوص ساذجة ، فذلك ناتج مباشر عن ضعف التصورات التي قدمها العقل و عجزه عن الخروج من دائرة قياس الشاهد على الغائب.

13. أبريل 2022 - 2:16

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا