منذ بروز التعددية عرفت بلدان في قارات مختلفة في العالم أنماطا عدة من أساليب اختيار المسؤولين المكلفين بالقيادة، وتميزت الانتخابات بأنها إرادة الشعب الطوعية، للتخلي أو التنازل مؤقتا عن الحقوق في التسيير والقيادة، لصالح مُنتخب يختارونه متوليا نيابة عنهم وباسمهم تسيير شؤون بلادهم، وهو ما يعتبر تنازلا عن حق أصيل وحرية ثابتة للفرد في أن يكون معنيا ومسؤولا عن أرضه وممتلكاته الخاصة، ونظرا لأنه يشترك نفس الحقوق والممتلكات مع باقي أفراد الشعب، وجب أن يتم إسناد مهمة التسيير والقيادة لأحدهم توضع فيه كامل الثقة ويمنح كافة السلطة لتنفيذ رؤيته التي اختاره على أساسها الشعب.
ومع سير النموذج الديمقراطي المتمثل في الانتخابات ومعرفة الطرق الشفافة لانعكاس منصف وإيجابي لإرادة الجماهير لاختيار من يسوسهم، فإن الحاجة أصبحت ملحة فيما بعد لتحديد معايير موضوعية لاختيار وتعيين المسؤولين المباشرين الذين يتولون إدارة المؤسسات.
وإن كان الوضع قد حسم من خلال الدستور والقوانين لمعرفة طرق تعيين وتكليف الحكومة وبعض قادة الأجهزة الإدارية والأمنية والرقابية والمؤسسات الفنية، فإنه كان لزاما على القادة وضع أسس واضحة وشفافة لاختيار الشخصيات لشغل المناصب المختلفة قصد خدمة أفضل وأكثر فاعلية في الأداء، تضمن سير العمل في تلك المؤسسات والمرافق وفق البرامج المرسومة وبحسب الخطط والاستراتيجيات.
وفي النظر إلى الحالة الوطنية فقد عانت موريتانيا بعيد الاستقلال من إشكالات جمة في توفر الكوادر البشرية القادرة على تسيير مفاصل الدولة، وحمل المسؤوليات الجسام التي وضعها الشعب على كاهلها، باعتبار أنهم موظفون يخدمون الوطن يجب أن يحظوا بالكفاءة والقدرات اللازمة لأداء تلك المهمة، ورغم ندرة الأطر القادرة على رفع سقف الطموح استطاعت البلاد اتخاذ إجراءات تاريخية لاستقطاب الكفاءات من المهجر والاستعانة بهم للنهوض بجمهورية مستقلة ذات سيادة في فجر التاريخ الحديث، وكانت معايير اختيارها هو الولاء المطلق للوطن والاستعداد الجاد لخدمته باستماتة، بالإضافة إلى معيار التمتع بالكفاءة اللازمة.
لكن مع مراحل متقدمة بدأت بلادنا في استنزاف بالغ لمكتسبات الجمهورية الموضوعية في اختيار الموظفين السامين والأطر الفنيين القادرين على رفع الأداء المهني، وجاءت اعتبارات أخرى أثرت على عمل مؤسسات الدولة بشكل كبير قادتها في كثير من الأحيان إلى الفشل الذريع في أداء مهامها الموكلة إليها، وغابت خدمة الوطن بسبب النزوع إلى تعيين الأشخاص باعتبارات لا موضوعية تراعي التمثيل القبلي والجهوي والعرقي على حساب الأحقية بالكفاءة والحاجة إلى الخبرات فضاع العمل الجاد، وضاعت طموحات وخطط تلك المؤسسات.
ومنذ انتخاب فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني بدى أن التركيز مرهون بالتحلي بالروح الوطنية، والرغبة في تخطي عقبات الضعف والهشاشة التي أصابت الجسم الإداري، وتمثلت في قصور الخدمات وازدياد الفقر والفاقة رغم ثروات البلاد، وكان من الواضح أن نظام رئيس الجمهورية قام بتشخيص الواقع محددا مكامن الخلل، حيث أن البلاد بدون طاقات أطرها الغيورين على حاضرها ومستقبلها، ستبقى دون المأمول من تطور ونماء، لقد أيقنت القيادة الوطنية بأن البلد بحاجة إلى المؤمنين بمشروع الجمهورية، والمنخرطين في دعم الخيارات الوطنية الكبرى، والمتمتعين بالكفاءة والخبرات الضرورية للخروج أخيرا بالقطاعات الخدمية من نفق غياب الرؤية والضبابية واستشراء المسلكيات الضارة بالعمل الإداري وبالشفافية والحكامة.
إن نجاح فخامة رئيس الجمهورية في تحديد الخطوط العريضة لما يجب أن تكون عليه الدولة في قربها من المواطن مراعاة لكرامته، ومنذ خطاب وادان مرورا بخطاب 24 مارس وصولا إلى خطابه أمام الفاعلين الاقتصاديبن، كان واضحا المنهج الجديد في منح الثقة بناء على الكفاءة والاقتدار على خدمة المواطن بأمانة وتفان وباعتبار هذا المواطن السيد وصاحب الأمر، كان التأكيد واضحا على أن تكليف المقتدرين من بين الأطر الوطنيين المؤمنين بهذا المشروع الوطني، هو الأساس.
إن الاعتماد الوطني سيكون منصبا على ذوي الكفاءة والخبرة، في مقابل أنه علينا الكف عن المطالب ذات المصالح الضيقة للتعيين على أساس القبيلة والجهة أو العرق والإثنية، فنحن أحوج ما نكون إلى موظفين جمهوريين ولاؤهم للوطن ولبرنامج رئيس الجمهورية الذي يحمل في طياته نسيم التغيير والخروج بهذا الوطن من قُمقُم سوء التسيير إلى رحب الجدارة والاستحقاق القادر على البناء وخدمة الوطن والمواطن بصدق وتفانٍ.