يطالعنا الخطاب الرئاسي في منتصف المأمورية بوتيرة قوية لا تقبل تفويت فرصة المكاشفة والمصارحة بشأن المسار العام للبلد؛ وُضِعت فيها نقاط كبيرة على أحرف قَلِقَةٍ محيّرة مركوزة بشدة في تفكير كل مواطن من أبناء هذه الإيّالة الناشئة من عدميةٍ في العمران والسلطة، ومكنونة في خَلَد كل مسؤول عن صناعة القرار السياسي والإداري على فترة من الشرعية والانفتاح السياسي؛ عبر الحقب السياسية المتابينة في سياقها، والمرجعيات المتلاحقة في مقاصدها؛ وفي فهمها لمقاربة إشكال الحكم المرفودِ بالرشد والقرب والنماء.
نعم.. منذ شهر بدأت تتشكّل معالم مرحلة جديدة طالما انتظرها المواطن؛ لكي لا تظل انطباعاته اليومية في واد وتظل مواقفُ وتقديراتُ القائمين على الشأن العام التنموي في واد؛ والحمد لله على هذه المكاشفات حتى لايظُنّ هذا المواطن بنفسه ظنونَ فسادِ آخرِ ما يمتلك من إدراكٍ وقناعة.... إذن اتفق تصور الحاكم والمحكوم وزالت حقبة التعتيم والتمادي في تجاهل بدايات التأسيس الفعلي، كانت حقيقة مرة ولكن البوح بها من صميم أُهْبَة الانطلاق ومن مؤشر صِحّة التغيير ونبذ المغالطات في مصير أمة تحترم نفسها وتسعى لإيجاد الحلول الصادقة المنبثقة من الممكن والدائرة في رحى أغوار عوائق التنمية تسبرها وتُقسّم مكامن الخلل للخروج من بؤرة الواقع وآلامه إلى آفاق تكاتف الجهود وتثمير المتاح وتعديل المُعوج.... ولعل هذه المكاشفة بهذه الوتيرة وفي مناسبات متقاربة تشكل قطيعة غير مسبوقة مع أساليب المداهنة والمناكفة والضلالة على علم، المألوفة في الحقب السابقة؛ وهي مقاربة في الإصلاح جريئة وصريحة تُحسب لهذا النظام وبقيمة مضاعفة بمنطق التقييم السياسي.
لقد دار الخطاب/ المكاشفة حول مضامين جوهرية كلها، يمكن استجماعها في ثلاث محاور كبرى:
- مسألة الفساد: ما كان منه مستشريا في السابق والذي مازال يُتَوجّسُ منه آنيا في المرافق الحيوية وفي تسيير بعض البرامج والمشاريع التضامنية الناشئة؛
- معضلة الترهل الإداري في مرافق الدولة على المستوى المركزي ومحدودية الأداء الإقليمي وبُعد الخدمة الإدارية بل وانقطاعها وضعف انسيابية نيل الحقوق المكتسبة؛
- إشكال تغلغل الفقر في ضوء ضعف الموارد وضغط المديونية الخارجية وتحديات ارتفاع الأسعار العالمية والسيطرة على توفير المواد الأساسية بأسعار في المتناول.
والحقيقة أن هذه المحاور لا يمكن أن تخرج بحال من الأحوال عن لب وجوهر السياسة الحكومية المزكاة من البرلمان، لكن إبرازها من جديد في سياق مراقبة الحكومة ومن طرف أعلى سلطة القرار هو بمثابة إعادة لمقاربة النسق التنموي ونقله من مجرد مسؤولية مخصوصة بفريق حكومي إلى نسق جمعي يقرر ويراقب فيه كل من أبدى استعداده من الفاعلين السياسيين، على اعتبار أن المرحلة هادئة والمطالب حساسة ومصيرية ينبغي أن تكون فوق استقطاب الأغلبية والمعارضة.
وكأن هذه المكاشفة عقدا جديدا لتقوية الثقة بين المواطن والدولة ولتجديد بعض شروط التعهدات الانتخابية.
وفي جميع الأحوال يتطلب الشروع في جزئيات تصحيح الاختلالات القيامُ بتدابير قوية تهز صخرة الفساد الإداري والمالي هزا قويا ليتهاوى الحطام الذي لم تعد تفيد فيه الذكاة؛ فلئن كانت كلمة السلطان مرهوبة أشد من وقع السيف فإن درة عمر كانت أبلغ وأنفذ في تغيير اتجاه البوصلة خاصة أن الانتقال من المعايشة والمساكنة للواقع الصعب إلى آفاق عهد جديد تتطلب أمارات واقعية ومشهودة تنبئ بالسير قدما في مسار الإصلاح والتغيير.
ولعل تنزيل فحوى هذه الضرورات- محل المكاشفة- يقتضي من وجهة نظرنا المتواضعة النظر بصدق وأمانة ودقة لبعض المقتضيات لن تقوم قائمة من دونها مهما علا النداء واتضح التشخيص، من ذلك على سبيل المثال:
1- تعميم وحدات إدارية مسؤولة عن الاستقبال والتوجيه بكل منشأة إدارية تنصت بجدية للمواطن مع إنشاء نظام لتخفيف وتبسيط الخدمة الإدارية وفق آجال للرد معروفة ومحترمة من الرؤساء الإداريين؛
2- تنشيط هيئات الرقابة الإدارية والمالية بدْءً بالرقابة الذاتية لكل قطاع عبر المفتشيات القطاعية وانتهاءً بالمفتشية العامة للدولة؛ أليس حَرِيًّا بالقطاعات الوزارية بث الروح في الرقابة الذاتية لمهام التفتيش الداخلي التي لم يعد يذكرها ذاكر.
3- تمكين السلطات الإدارية المستقلة/ أو هيئات الوساطة والتوفيق من لعب دورها في دعم مطالب المواطن وحمل الإدارة على إنصافه؛
4- المعيارية في الحياة الإدارية توليةً وترقيةً وتحفيزا؛ وهذا يقتضي الاعتداد بالتفريق القانوني في الوظائف بين الوظائف السياسية والفنية، ومن ذلك احترام تطبيق المرسوم المتعلق بالإسناد في الوظائف التأطيرية، وكذا مراجعة نظام تولية مجالس الإدارة وتكثيف رقابتها على أداء المرافق العامة خاصة في مجالات الخدمات القاعدية كالماء والكهرباء والنقل ... ولا مجال لنسيان الكفاءات تتخطف في أروقة المرافق العمومية أكل الدهر وشرب على انتظاراتها والسُّذّجُ البلهاء ينتزعون المناصب وكأن المسؤوليات ومزاولتها إكراما أوحظوة يُنْتَقَرُ المخصوصون بها على خلاف قول الشاعر:
.............. لاترى الآدب فينا ينتقر؛
5- تفعيل اللجان والمجالس الغائبة إلا في مواسم محدودة رغم ارتباط الحقوق والخدمات اليومية بها؛ ولن يتحقق ذلك مادامت مُسنَدة لأصحاب وظائف ومناصب سياسية أخرى يستحيل جمعهم بين مسؤوليتين؛
6- زيادة المقدرات المالية لمؤسسة الوالي وإمداده بهامش معتبر من سلطة التفويض ليرى رأيه ويتخذ قراره في شأن مشاكل المواطن وحلها آنيا دون تكديس الملفات في المركز.
7- تدشين مرحلة جديدة من " المواطنة التنموية" لرجل الأعمال الموريتاني بحيث يساهم مساهمة جادة يضحي من خلالها بالتكفل بمشاريع لا تبدو مربحة أو تتسم بالمخاطرة؛ وإن اقتضى الأمر اللجوء لمسطرة التراضي مادامت ستساعد في تحريك البنى التحتية.
8- الشروع في إنشاء مشاريع صناعية تكفل الحد الأدنى من الاكتفاء الذاتي؛
9- دعم المجال الزراعي والحيواني وتطوير عائداتهما الواعدة.
لقد بات حَرِيًّا بنا جميعا- ونحن نعيش لحظات هدوء وتوافق حزبي تلقائيةً- أن نستثمر هذه المكاشفة السياسية الإيجابية، وأن نشمّر لتحديد أدوات مرحلة ما بعد التشخيص ... وأن نَحمِل أنفسنا كلٌّ من موقعه للمساهمة في ركب الإصلاح بتغيير عقلياتنا؛ فمرافق الدولة ليست ملكا خصوصيا أو ركازا تم العثور عليه بشكل عفوي أثناء رحلة انتجاع، وخدمات المرافق العامة ليست امتيازا مخصوصا والمساهمة في صياغة القرار ليست إرثا أو وصية.
فالجميع أمام مسؤولية بناء الوطن وتنميته وهو أمر يقتضي فهما جديدا للدولة وميكانيزمها، وتصرفا مغايرا في الأداء؛ والنموذج الجديد للتنمية لم تعد فيه الدولة وحدها تستأثر بالمسؤولية التنموية وإنما تتقاسم مسؤوليتها بِتَساوٍ مع المقاولة الخاصة والمجتمع المدني كلٌّ فيما يعنيه.