يستعد الساسة وقادة الرأي وممثلو الأحزاب وفرقاء المشهد السياسي لإطلاق قاطرة التشاور الوطني المرتقب ، والواقع أن البلد يعيش لحظة مفصلية من تاريخه المعاصر ، وفى ظل وضعية إقليمية ودولية بالغة الصعوبة والتعقيد ، يتعين الشروع فى إطلاق ورشات تنموية وسياسية تحدث تحولات عميقة وإصلاحات جذرية ، ولاشك أن فى مقدمتها تنظيم هذا التشاور الوطني الشامل ، إذ أراه فى طليعة رهانات المرحلة وأولوياتها التى يتعين على الحكومة أن تشرع فى تنفيذها ، ليتم خلاله بحث ونقاش جميع القضايا الوطنية الجوهرية ؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والحقوقية ، ونأمل أن يحصل ذلك وفق مقاربات حصيفة ومعالجات مستنيرة وبحضور كافة النخب الوطنية ؛ السياسية والثقافية والعلمية وبمشاركة قادة الفكر وحملة الرأي وفقهاء القانون وخبراء التنمية ونشطاء المجتمع المدني.
ونتمنى أن يشكل هذا التشاور سانحة تاريخية لينخرط الحاضرون والمشاركون فى حوارات جادة وقادرة على مواكبة متطلبات المرحلة ، طبقا لاستراتيجية مدروسة ورؤية واعية تنتج إجابات شافية وتفرز توصيات وافية حول قضايا الحكامة والإدارة والتنمية وإشكالات المجتمع والثقافة والهوية ، حيث نطالع من حين لآخر فى بعض المنصات والمواقع الإلكترونية ، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي سيلا من الكتابات والبيانات الحبلى بالسجال والمناكفات حول مسألة اللغة والهوية ، ولاشك أن مايكتب وينشر في أغلبه يعكس جدلا بزنطيا عقيما ؛ لايعدو جعجعة سياسية يثار نقعها كلما عنت سانحة تاريخية للتشاور والنقاش الجاد الرصين حول القضايا الوطنية الجوهرية.
صحيح أن سؤال الهوية مشغل سياسي محوري وأن إشكال اللغة مبحث ثقافي مركزي ، غير أن طرحهما ونقاشهما يحتاج لسياقات فكرية رصينة ومنطلقات علمية أصيلة ، ومقاربات أكاديمية حصيفة ؛ بعيدا عن لغة التنابز والاستقطاب وخطاب التعصب والاحتراب ، وفى هذا السياق ندعو نخبنا الأكاديمية إلى التأليف والكتابة ، وإلى تنظيم الندوات والمحاضرات ، وفتح النقاشات والحوارات دون خجل أو وجل..ودون محاذير أوتابوهات ؛ ليصغي بعضنا إلى بعض ، وأنا على يقين بأن الاختلاف الخلاق!..هو الذى ينتج الإجماع والاتفاق.
نحتاج من المؤرخين إلى البحث التاريخي فى العصور ، ومن علماء الاجتماع إلى التحليل السوسيولوجي للجذور ، ونحتاج إلى النبش الآركولوجي للآثار والتأمل الأنتروبولوجي لتاريخ المقولات والأفكار ، ونحتاج من الساسة وقادة الرأي - إلى أكثر من ذلك - أن يؤمنوا بصدق وإخلاص وحسن نية بحتمية العيش المشترك ووحدة المصائر والأقدار...ألا نملك - بكل مكوناتنا الوطنية - كينونة حضارية راسخة ومكينة على هذه الأرض؟..أليست لدينا ثوابت دستورية صلبة ومتينة لبناء دولة وطنية مدنية معاصرة؟..ألسنا جمهورية إسلامية ؛ عربية وإفريقية؟..
أجل.. إن تنوعنا الثقافي وتعدد لغاتنا وقومياتنا هو مبعث عزة ومنعة ، وعامل ثراء وقوة ومصدر تلاحم ووحدة ؛ شريطة أن لانقبل الاغتراب و الاستلاب الحضاري وأن نرفض كل مظاهر التدخل الكولونيالي والاستعمار الثقافي..وليست لدينا مشكلة مع اللغات العالمية والمعارف والعلوم الإنسانية ، فلامندوحة عن الانفتاح عليها وتعلمها وفق ضوابط تربوية عقلانية واستراتيجية بيداغوجية مدروسة ، يجمع عليها خبراء التعليم والتربية من جميع المكونات والحساسيات الوطنية.
نتمتع بخصوصية سوسيولوجية فريدة انبثقت من رحم تراث باذخ من العيش المشترك والتلاقي الحضاري بين عمقنا العربي الإسلامي وبعدنا الإفريقي ، وتلك هي ملامح هويتنا ، ويبقى الاستقلال الثقافي مربط الفرس وبيت القصيد ، وينبغى أن نتشبث به جميعا من أجل تمكين هويتنا العربية الإفريقية وتحصين خصوصيتنا الثقافية والحضارية ، للوقوف سدا منيعا في وجه المحاولات اليائسة للنيل من لحمتنا الوطنية ، والتصدى الحازم لثقافة الغلو والكراهية وخطاب التطرف والعنصرية بفكر ثاقب ورأي صائب ؛ يؤسس لقيم الحوار والتشاور باعتبارها أنجع السبل لتحقيق مصالح الإنسان وتنمية الأوطان.
إن كل ذلك يضع نخبنا اليوم أمام اختبار كبير لقياس وتقييم أدائها ، ومدى حرصها على تجذير خيار النهج الديمقراطي الحضاري ، من خلال التعالى على المصالح الأنانية والابتعاد عن العقلية لبراكماتية الساعية لتحقيق مكاسب سياسية آنية ؛ فاللحظة تحتاج إلى نخبة وطنية تقود تحولا ديمقراطيا مجتمعيا ، وتصوغ مشروعا توافقيا لتحديث البلد وتنميته ، وتقوية حكامته السياسية وبناء قدراته الاقتصادية الذاتية.
إن النخب السياسية الوطنية مدعوة - أكثر من أي وقت مضى- إلى لعب دورها التاريخي خلال هذه المرحلة ؛ عن طريق المشاركة القوية في عملية التغيير المجتمعي والنهوض التنموي وكسب الرهان السياسي ، وتحويل هذا التشاور إلى عرس ديمقراطي يؤسس لعهد جديد من قيم التلاحم والتآز وتعزيز الوحدة الوطنية ؛ على أسس الإنصاف والعدالة والمساواة وتكريس دولة القانون والمؤسسات ، وترسيخ الإصلاحات الدستورية والتشريعية وتفعيل آليات الرقابة والمحاسبة ، وتطوير أساليب الحكامة السياسية والاقتصادية.
إنها فرصة نادرة ينبغى أن نغتنمها ؛ مستعينين بالله العلي القدير وبعمق وأصالة شعبنا ، متسلحين بقوة وثراء تنوعنا ، بغية التفكير العميق في حاضرنا ، والتخطيط الدقيق لمستقبلنا لترتيب الأولويات وتصحيح الاختلالات وتجاوز التحديات ؛ لكي نبني صرح الثوابت والمشتركات بقلوب صريحة وعقول صحيحة ، تنتهج أسلوب التشاور والتحاور والبيان بالحكمة والحجة والبرهان .