لقد وفق محمد عنبر بين العقل والمادة بإطلاقه لفظ (الشيء) الذي يشمل كل موجود إلى أن تصل الحضارة من أمرها إلى ما يكون أساسا للبناء عليه.
فالصوت: كلمة، ونعني بها تلك التي صدرت فطرة وسليقة من أي صائت في أي مكان من أي زمان. وفي أي لغة وأن تعاملنا معها كوسيلة من وسائل المعرفة وليس على أنها مجرد وسيلة للتفاهم بين الناس..
لقد خرجت اللغات من أصولها إلى هيئات وصور أخرى، وليس في الوسع أن تتعرف على تلك الأصول إلا بإصطناع منطق الجدل، في الثنائي كثيرا وفي الثلاثي قليلا: فحركة الجدل في الثنائيات أوضح وأجلى منها في الثلاثيات، فالثنائي هو الأصل في العربية، والخلية الأولى موطن التشابه الأول بين الأحياء.
أمالثلاثي فكأنه يؤرخ وجه الإنسانية فيها، فالألفاظ الثلاثية تعبر عن السمة الإنسانية السوية التي جاءت في أحسن تقويم، والثلاثي قائم على وجهة الثنائي الأصل، لم يخرج عليها، وقد اعتبره أهلها أصلا لكل ما يقبل التصريف فيها قال العلامة ابن مالك:
وليس أدنى من ثلاثي يرى@ قابل تصريف سوى ما غَيرا
ولأنه قائم على فيزيائية وصفة حروف الصيغة حيث تخرج الحركة في (در) من الدال الشديدة التي تقوم بمثابة الشد أمام تمادي الراء المتمادي بالراء المتكررة المتمادية التي تأخذ بيد الصبغة إلى الانطلاق لأن الأمور بخواتمها ومع أن الأمور بخواتمها فإن صيغة «در» هذه تعلن أن الحركة فيها خرجت من حاجز الدال بالنسبة للراء لتمادي بالراء المتمادية ولهذا جاء الدر للخروج من الاحتباس إلى التمادي كخروج اللبن من احتباسه في ضرع البقرة مثلا بالدال إلى تماديه منطلقا بالراء المتكررة.
أي إن فيزيائية هذين الحرفين هي التي جعلت هذه الصيغة تؤرخ للاحتباس الذي تؤرخ للانطلاق الذي تؤرخ به الراء بحكم تماديها وانطلاقها.
ولئن وجدنا كلا من الزائد والناقص منفصلا عن الآخر فإن الشيء لا يزيد في حيز إلا إذا نقص من آخر والعكس بالعكس ضرورة وبداهة.
وكذلك فإنه لا وجود للسالب إلا بالموجب والعكس بالعكس ولا وجود للتجمع إلا بالتفرق ولا بالفعل إلا برد الفعل ضرورة وبداهة، ولئن جاءت الحرية بأزواج منفصلة فإن كلا من الزوجين في بنية الاتصال مع زوجه المناقض له الذي ينسجم ويتآلف معه، ولذا وجدنا
هروقليط يقول:
إن الصراع بين الأضداد ضرب من التوافق على عكس ما ذهب إليه أرسطو.
والتضاد هنا هو التناقض لو لا أنهم يستعملون كلا منهما مكان الآخر تجوزا.
ولئن استعمل الرياضيون الأعداد مطلقة فما ذلك إلا من قبل التجوز أيضا وقد سبب استعمالهم للقيمة المطلقة أن وجدوا أنفسهم يواجهون حلبن للمعادلة..
ولو نظرت إلى المعادلة 4 = 4 لما وجدت أن بالإمكان جمع طرفيها من طرف واحد إلا إذا غيرت من إشارة الطرف المنقول لتناقض إشارة الطرف المنقول إليه إذ يستحيل اجتماع الطرفين في طرف واحد إلا إذا كانا متناقضين.
وعليه تصبح المعادلة هي :
4 ـ 4 = 0. فماذا يعنى ذلك ؟ والجواب: انه يعني أن العدد أو أي شيء من هذا الوجود لا ينفصل من نقيضه القائم في ذاته إلا تجوزا.
وهذه المعادلة ليست في الواقع 4 ـ 4 = 0 وإنما هي أن الأربعة زائدة ناقضة وفي أن واحد أي أنها 4.
ولما كانت في حقيقتها كذلك فإن هذه الحقيقة هي التي جعلتنا نواجه في المعادلة الواحدة حلين أحدهما يرجع إلى الجانب الناقص والآخر يرجع إلى الجانب الزائد لأن كل شيء في واقعه قائم على التناقض فهو زائد ناقص، وموجب سالب في آن واحد.
فالدر من در في صورة اللبن إذا (در) فهو يدر عن حيز متماديا لينجزر عن حيز منجزر، فهو متماد منجزر في كل حركة من حركاته وفي كل خطوة من خطواته ضرورة وبداهة. ولئن حار الواقفون على هذه الحلول المزدوجة في المعادلات فإن حيرتهم ناشئة عن عدم وقوفهم على ما هو عليه الشيء ـ أي شيء ـ في ذاته. ...يتواصل...