إن التركيز على قطاع الطاقة وصراعاتها والمصالح المرتبطة بها - كما هو حاصل الان - غطى على الازمة الحادة المرتبطة بالغذاء والاضطرابات في أسعار الحبوب ومنتجات البذور الزيتية والاسمدة وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل مناطق عديدة من العالم، بل ربما، العالم بأسره.
ويتأكد يوما بعد يوم أن خطط التنمية وخاصة ما يعرف بأهداف التنمية المستدامة تحتاج إلى ضبط آليات المرونة الذاتية للتعاطي مع الاحداث المفاجئة والصدمات المباغتة ، حتى لا تتحول إلى مجرد حِمية معلقة على الجدران لا علاقة لها بحسابات المستقبل ومستجداته.
لقد ظهر ذلك جليا من قبل أثناء جائحة كوفيد19.. فقد انهارت فجأة الأنظمة الصحية للعديد من البلدان ، وتأثرت سلاسل الامداد الغذائي ، وتوقفت الأنشطة، وتراجع النمو وارتفعت نسبة الفقر من جديد ..
واليوم ..يواجه العالم بسبب الحرب المستعرة في أوكرانيا أزمة مصيرية ترتبط بالطاقة والغذاء.. وبين الغذاء والطاقة ترابط وشيج ، أقله أن السماد الزراعي ومبيدات حماية المحاصيل هي من مستخلصات النفط والغاز وبالتالي فإن ارتفاع أسعار الاسمدة يعني مباشرة ارتفاع كلفة الغذاء
...
غير أن المشكلة الرئيسية والمباشرة الان هي انهيار سلسلة توريد الحبوب من منطقة روسيا وأوكرانيا - أهم سلة خبز في العالم - إذ توفر روسيا وحدها 20% من المحصول العالمي للقمح، وهو ما يجعلها أكبر منتج للقمح في العالم ، أما أوكرانيا التي يرمز علمها الجميل إلى زرقة السماء وصفرة حقول القمح، فتأتي في المرتبة الخامسة عالميا من حيث إنتاج القمح والأولى في إنتاج الذرة .. وبالتالي فإن انهيار إمدادات التوريد من هذه المنطقة ستكون له بلا شك عواقب وخيمة فيما يتعلق بتأمين حاجة العالم من الحبوب و بخاصة من القمح ..
وقد يكون للاضطراب في سلسلة التوريد بالقرب من منطقة دونمباس الأوكرانية تأثير مضاعف على أسعار منتجات البذور الزيتية ، وعلى سبيل المثال تشحن أوكرانيا من موانئها على البحر الأسود مثل ميناء أوديسا وميناء ميكولايف الخ ..معظم صادراتها من الحبوب ، ومع إغلاق هذه الموانئ بسبب الحرب والقصف المتواصل ، فإن الأسعار لن تتوقف عن الصعود..
ينضاف إلى ذلك خروج روسيا من نظام الدفع المالي العالمي "اسويفت" بسبب العقوبات الغربية .. وهو ما يعني تعذر المتاجرة معها ..
نظريا هذه الازمة هي إحدى تجليات ما يعرف بفخ الترابط وهي إحدى سلبيات النظم المركبة بما فيها نظام العولمة ، الذي هو نظام جيد ومفيد ولكن إذا حصلت أزمة تستدعي تفكيك أوصال هذا السيستم أو المنظومة مثل ما رأينا أثناء أزمة كوفيد ونراه الان ، فإن الكارثة ستقع .. والمشكلة أنها تقع دوما بشكل مفاجئ ومباغت للمتأثرين بها ..
نحن نحصل على خبزنا كل صباح ولكننا لا نفكر في الرحلة الطويلة التي قطعها هذا الخبز عندما كان قمحا، والموانئ والمعابر التي مر بها لكي يصل إلى أطفالنا ساخنا كل صباح .. و الان حين ينقطع هذا الامداد في مرحلة ما من الطريق فإن الكارثة تقع ..
إنها أزمة غذاء حادة تلوح في الأفق ، وهي تضرب ما يعرف بأهداف التنمية المستدامة في مقتل وهي أزمة لا يمكن الإحاطة بتداعياتها في المستقبل ..
فارتفاع أسعار المواد الغذائية وانقطاع التموين يمكن أن يؤجج الاضطرابات الاجتماعية، مما يعطل الخدمات ويفاقم مشكلة الفقر والجوع والصحة العامة أكثر فأكثر .