ذكرنا في الحلقة السابقة ان قول ابن عباس في حديث كريب له حكم الرفع بحسب القواعد الحديثية.
وحتى على فرض انه مجرد راي منه فإن هذا الراي يجب اتباعه بحسب القواعد الاصولية ؛ لانه لا مخالف له من الصحابة ؛ ولانه اجتهاد من صحابي في تفسير مرويّه المحتمل الدلالة.
ولان قول الصحابي حجة معتمدة ، فيتعين علينا الأخذ بقول ابن عباس في هذه المسالة ..
وحتى الشخص العامي يجوز له اتباع مذهب الصحابي الثابت عنه كما قال العلامة سيدي عبدو الله في المراقي :
ويقتدي من عم بالمجتهد
منهم لدى تحقق المعتمَد.
ولهذا لما ذكر ابن عبد البر حديث كريب قال بأنه يذهب اليه ( لأن فيه أثرًا مرفوعًا، وهو حديث حسَن تلزم به الحجةُ، وهو قول صاحبٍ كبير لا مخالفَ له من الصحابة، وقول طائفة من التابعين، ومع هذا: إن النظر يدل عليه عندي)التمهيد،(7/ 159 - 160)،ط : الفاروق الحديثة: 1422هـ.
ونقل جامع "الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي" عن الإمام الاذرعي انه قال :
(وحديث كريب رواه مسلم وأبو داود والترمذي وذكره القفال ومن تبعه واعتمدوه وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وهو حسن تقوم به الحجة وهو قول صحابي كبير لا مخالف له من الصحابة - رضي الله عنهم -، وقول فقهاء التابعين) اهـ من الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي (ص :9 /2)ط: دار الكتب العلمية.
والذين ذهبوا الى قول ابن عباس من التابعين ذكر الخطابي بعضا منهم فقال : ( ذهب الى ظاهر حديث ابن عباس : القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله بن عمر وعكرمة وهو مذهب اسحاق)معالم السنن: (98/2) ط: المطبعة العلمية بحلب.
*****
وحديث كريب له عدة مرجحات من أدلة أخرى نذكر منها :
أولا :
قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، والذين لم يروا الهلال ولم يحكموا برؤية من يتفق معهم في المطلع ؛ لا يقال بانهم
شهدوا الشهر ؛ لا حقيقة؛ ولا حكماً، والصوم انما يجب على من شهد الشهر.
ثانيا :
قوله صلّى الله عليه وسلّم: « لا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه »رواه ابن عمر وغيره من الصحابة.
وهذا الحديث كما استدل به القائلون بعموم الرؤية استدل به ايضا من ذهبوا الى قول ابن عباس ..
لأن الحديث نهى عن الصوم حتى تثبت الرؤية، ومن لم ير الهلال ولم يره من يتفق معه في المطالع لا يقال بأنه رآه لا حقيقة، ولا حكماً.،
ثالثا:
حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون" رواه الترمذي وقال : "وفسر بعض أهل العلم هذا الحديث فقال إنما معنى هذا أن الصوم والفطر مع الجماعة وعظم الناس".
ففي هذا الحديث نهي عن مخالفة الجماعة في الصوم والفطر
ولاشك أن الجماعة المطلوب موافقتهم في الصوم والفطر هم أهل البلدة التي يسكنها الشخص لا غيرهم من البلدان البعيدة ،فدل هذا على انه اذا اختلفت رؤية البلدان فالواجب على كل أحد اتباع رؤية أهل بلده ، ولا يجوز له الصوم برؤية البلدان الأخرى.
وقد روى ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن عياش عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنكر على محمد بن سويد الفهري لما أفطر أو ضحى قبل الناس بيوم. وإسناده حسن.
وحتى العلماء الذين يفتون بعموم الرؤية فإنهم ينصحون الناس بالالتزام برؤية بلدهم ؛ ولهذا نجد الالباني رحمه الله يقول: (وإلى أن تجتمع الدول الإسلامية على ذلك فإني أرى على شعب كل دولة أن يصوم مع دولته، ولا ينقسم على نفسه..
فيصوم بعضهم معها..وبعضهم مع غيرها!
تقدمت في صيامها أو تأخرت !
لما في ذلك من توسيع دائرة الخلاف في الشعب الواحد،)تمام المنة في التعليق على فقه السنة، ص: 398.
لكن بعض الناس المتبعين للقول بعموم الرؤية آل بهم الامر الى مخالفة الجماعة والشذوذ عنها في القربة والطاعة ومخالفة قوله صلى الله عليه وسلم : "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون" !
رابعا :
قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون"
يدل على وجوب الالتزام بالرؤية التي قررها الحاكم ما دام لها وجه شرعي ومسلك مرضي.
قال أبو الحسن السندي في "حاشيته على ابن ماجه" -بعد أن ذكَر الحديث-: "والظاهر أنه معناه أنَّ هذه الأمور ليس للآحاد فيها دخل، وليس لهم التفرُّد فيها؛ بل الأمر فيها إِلى الإمام والجماعة، ويجب على الآحاد اتباعهم للإِمام والجماعة.
وقال الإمام أحمد : أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا، وهذا قول الحسن وابن سيرين.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن فضيل عن مطرف عن عامر: لا تصومن إلا مع الإمام، فإنما كانت أول الفرقة في مثل هذا. وإسناده حسن.
ولا خلاف بين أهل العلم انه يجب على جميع أهل البلد العمل بالرؤية التي حكم بها الحاكم وانما اختلف العلماء في وجوب العمل البلدان الاخرى بهذا الحكم.
وكما يجب اتباع الإمام في الحكم بثبوت الرؤية فأنه يجب اتباعه أيضا في الحكم بنفيها ؛ لان الحديث سوى بين الحالتين في الحكم ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون".
خامسا :
حديث كريب مقدم على حديث "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" لان هذا الخبر يدل على المراد منه بالظاهر وأما حديث كريب فإنه يدل على المراد منه بالقطع.
والقاعدة ان الخبر الدال على المراد بالنص دلالة قطعية اي لا يحتمل غيره
يقدم على الخبر الدال على المراد منه
بالظاهر اذا عارضه ؛ وأشار الى ذلك في مرتقى الوصول بقوله :
لو كان في المراد نصا او ورد
يدل من وجهين فهو المعتمد.
سادسا :
روى الدارقطني في السنن والبغوي في شرح السنة عن شقيق بن سلمة قال : (كتب إلينا عمر بن الخطاب ونحن بخانقين : "إن الأهلة بعضها أكبر من بعض ، فإذا رأيتم الهلال نهارا ، فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس").
ففي هذا دليل على ان عمر رضي الله عنه كان يقرّ كل اهل بلدة على العمل برؤيتهم؛ ولا يأمرهم بتحري الرؤية في البلدان الأخرى.
سابعا :
حديث كريب هو الذي عليه العمل ، ولهذا علق عليه الترمذي بقوله : "والعمل على هذا عند أهل العلم" .
وقال الحافظ في الفتح : " وحكاه الترمذي عن اهل العلم ولم يحك غيره".
وهذه المسالة تعتبر من المرجّحات كما قال في "مرتقى الوصول" في باب الترجيح :
او عمل السلف مقتضاه***
مع اطلاعهم على سواه.
أي ان الخبر الذي عمل السلف من الصحابة والتابعين بمقتضاه يقدم على الخبر المعارض له الذي لم يعمل به السلف مع اطلاعهم عليه.
واما القول بعموم الرؤية فلم يصحبه عمل على مدار التاريخ.
وممن نصّ على ذلك :
١- نقل الجصاص اتفاق المسلمين على أنه لا يجب على أهل أي بلدة انتظار الرؤية من البلاد الأخرى فقال :
( اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم) أحكام القرآن (الجصاص) ، ج 1 ، ص : 275
٢- قال شيخ الإسلام ابن تيمية :
(ما زال في عهد الصحابة والتابعين يرى الهلال في بعض أمصار المسلمين بعد بعض فإن هذا من الأمور المعتادة التي لا تبديل لها ولا بد أن يبلغهم الخبر في أثناء الشهر فلو كانوا يجب عليهم القضاء لكانت هممهم تتوفر على البحث عن رؤيته في سائر بلدان الإسلام كتوفرها على البحث عن رؤيته في بلده ولَكانَ القضاءُ يكثرُ في أكثر الرمضانات ومثل هذا لو كان لنقل ولما لم ينقل دل على أنه لا أصل له وحديث ابن عباس يدل على هذا)
مجموع الفتاوى (25/ 108)
٣- هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعوية، أقرت بالإجماع القرار رقم (2) في تاريخ 13/ 8/ 1392 هـ وجاء فيه :
( مضى على ظهور هذا الدين مدة أربعة عشر قرنًا، ولا نعلم فيها فترة جرى فيها توحيد أعياد إسلامية على رؤية واحدة، فإنَّ أعضاء الهيئة يقررون بقاء الأمر على ما كان عليه، وأن يكون لكل بلد إسلامي حق اختيار ما تراه بواسطة علمائها).
***
ولوضوح الادلة على عدم صحة القول بعموم الرؤية؛ نجد المجمع الفقهي الاسلامي يرفض الاخذ به .
كما ورد في القرار السابع من قرارات المجلس المنعقد في مكة المكرمة في الفترة من 7 إلى 17 من شهر ربيع سنة 1401 هـ في دورته الرابعة.
وجاء في هذا القرار :
(اعتبار اختلاف المطالع؛ لما في ذلك من التخفيف على المكلفين، مع كونه هو الذي يقتضيه النظر الصحيح، فما يدعيه القائلون من وجوب الاتحاد في يومي الصوم والإفطار مخالف لما جاء شرعًا، وعقلاً: أما شرعًا: فقد أورد أئمة الحديث حديث كُريب...
وأما عقلاً: فاختلاف المطالع لا اختلاف لأحد من العلماء فيه؛ لأنَّه من الأمور المشاهدة التي يحكم بها العقل، فقد توافق الشرع والعقل على ذلك، فهما متفقان على بناء كثير من الأحكام على ذلك، التي منها أوقات الصلاة، ومراجعة الواقع تطالعنا بأنَّ اختلاف المطالع من الأمور الواقعية، وعلى ضوء ذلك، قرر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أنَّه لا حاجة إلى الدعوة إلى توحيد الأهلة، والأعياد في العالم الإسلامي.)انتهى.