إن العقل يُعلم, ويُقدر, ويتطاول بالتفكير إلى ما لا يمتلك أدوات إثباته. فهو يُعلم فيما يقوم على التسلسل المنطقي الرياضي في عملية ذاتية هو سيدها المستقل, ويُعلم في الحقيقتين التجريبية والمشهودة عبر أذرعه الحواس بشكلها المجرد أو من خلال عملية إطالة أذرعه عبر التكنولوجيا. وهو يُقدر في الرأي والأخلاق مستعينا بما تراكم من علم, وسلم من فطرة, وهو في ذلك يتوقع ويقدر النتائج, ويصحح بناء عليها في عملية تحسين مستمرة, بصمات دورية التعقل واضحة على تنضيجها. وهو يتطاول بالتفكير إلى كل ما لا يثبته المنطق الرياضي ولا تطاله الحواس تقديرا أو تصحيحا, فهو في هذه الحالة لا يمكن أن يكون مصدر يقين يُتقاسم, إن الارتياح منبت الاعتقاد, والتصديق المرتكز المحوري للإيمان, ولا يصلح العقل إلا توطئة وتثبيتا لذلك. لا بد أن نعرف سلطان العقل وأن نستخدمه في كل مسألة في حدود سلطانه فيها.
وإن المصادر النصية منها ما هو قطعي النسبة لله والرسول صلى الله عليه وسلم, ومنها ما هو قطعي النسبة للرسول صلى الله عليه وسلم, ومنها ما هو ظني النسبة للرسول صلى الله عليه وسلم, وإن تصنيف الحديث داخل هذه الدوائر لا إجماع عليه, فمنهم من يعتمد قطعية الشهادة معيارا لقطعية النسبة فتنحصر نتيجة لذلك دائرة الأحاديث قطعية النسبة للرسول صلى الله عليه وسلم, ومنهم من يتخذ عصمة إجماع الأمة معيارا فتتسع عنده دائرة القطعية. وإن اختلافهم هذا يولد دائرة رابعة بين الدائرتين الأخيرتين هي دائرة ما اختلف في قطعية نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا تصنيف جوهري يجب أن نعرفه قبل التعامل مع أي نص تعاملا تترتب عليه أحكام مهما تكن طبيعتها, صونا للشرع وتجنبا للظلم. وقد وُضع هذا التصنيف وفق المستطاع بأدوات زمانه, وعملية إعادة التصنيف ليست أرضية للرأي وإنما ساحة للاختصاص, لأن صاحب الاختصاص ينظر من أعلى منارة صخور معرفية متراصة, لا يمكن أن نستبدلها بحدة العقل ولو أمضينا عمرا في شحذ ثاقبه. وإن هذه الدوائر جميعا رغم التفاوت في القطعية, تحمل من رداء القدسية ما يلزم التعامل معها بالدراسة والتحليل, وتجنبها بالرأي والتعليق, وحبل قيد أهل العلم في ذلك أثخن من غيرهم. ثم إن العلم مكتسب, وله مقتضيات, فمن اكتسب منه, نزل عند مقتضياته ولزمها, وذلك قد يقتضي تغيير بعض عاداته في الرأي والتعليق.
إن العقل في المسائل الاعتقادية الغيبية يصلح للتدبر, يصلح تثبيتا, لكنه لا يصلح للإثبات والنفي, ويجب أن يبتعد العقلانيون وغيرهم عن محاولة استخدامه فيها للإثبات والنفي. كان للمعتزلة زمانهم, وقد تطورت معرفتنا للعقل بعد ذلك, بعد أن تعهده العقلاء بالتعقل, وعرفنا دوائر سلطانه, وعلينا أن نستخدمه في حدود كل منها. يجب هنا أن أنبه أن التسلسل المنطقي غير الرياضي خدّاع –قد يخدع من لا يعرف حدود العقل أو تشبع بالتجربة البحثية- لأنه يخلق معقولية قد يحسبها المتعقل إثباتا, وهي ليست كذلك. إن التسلسل المنطقي غير الرياضي ليس إثباتا, فهو آلية الفهم الأساسية, لكنه لا يوّلد العلم, ليتحقق العلم العقلي لا بد من برهان رياضي أو بينة تجريبية.
إن استخدامنا للعقل للإثبات والنفي فيما نعلم يقينا اليوم أنه إنما يتطاول إلية بالتفكير دون أن يمتلك بشأنه وسائل البرهان أو التحقق, تترتب عليه نتيجتان في غاية الخطورة. الأولى أننا نبحث عن يقين العقل فيما تتقاصر عنه أدواته, فهو يتطاول إليه بالتفكير دون أن يمتلك أدوات تحقيق اليقين العقلي القابل للتقاسم والذي يترتب عليه العلم, فنحن بذالك نجعل العقل حكما فيما لا يمتلك أدوات القطعية فيه, وهذا خطا منهجي, تترتب عليه خيانة للناس, لأننا نقدم كحقيقة عقلية ما ليس كذلك. والثاني أننا باستخدامنا هذا للعقلانية خارج سلطان العقل, نزيد التوجس عند الناس من العقل بجعله, بهذا الاستخدام الخاطئ, يكمن تهديدا للاعتقاد, زعزعة للإيمان, فيعتبره كثير منهم خصما للدين. وهذا التوجس من العقل أحد أكبر المعيقات التنموية في بلداننا اليوم, نتائجه كارثية على ترتيبنا في سباق الأمم. إن المصالحة مع العقل ضرورة, وإنها تمر بأن يفهم العقلانيون وغيرهم دوائر سلطانه.
إن المسائل الاعتقادية الغيبية فضاء للتصديق, يقوم على الحقيقة الوحيية, وهي حقيقة اعتقاديه يصدق بها المؤمنون على قدر إيمانهم وقناعتهم بنسبة مصدرها من النصوص لله والرسول صلى الله عليه وسلم. وإن أولى لبنات المشروع العقلاني معرفة العقل واستخدامه في كل دائرة بقدر سلطانه.