وبعد ما تقدم في الحلقتين السابقتين من ادلة واضحة ترد القول بعموم الرؤية؛ هلم بنا نلقي نظرة على ادلة القائلين بهذا القول، واستدلالاتهم ؛ واعتراضاتهم..
ضعها على المجهر الشرعي..
و سوف تبدو لك الصورة..
و ترى القوم متوكئين على عصا مكسورة !
تراهم يتمسكون بالاستدلال مع وجود الاحتمال !!
ثمّ يقولون : "خالف ابن عباس النص بلا جدال" !!
بل جمعوا بين ضعف الأدلة؛ وغرابة الاستدلال !!
وعارضوا حديث كريب بما لا حجة فيه ولا إشكال !
وسوف نجيب على كلامهم من خلال النقاط التالية :
أولا : الرد على ادلة القائلين بعموم الرؤية .
ثانيا : التعليق على بعض استدلالات القائلين بعموم الرؤية.
ثالثا : الاجابة على اعتراضات على حديث كريب .
فأقول مستعينا بالله تعالى :
*******
أولا : الرد على أدلة القائلين بعموم الرؤية :
--------------------
بتتبع هذا الموضوع يتضح أن أهم ما استدلوا به من النصوص دليلان :
الدليل الاول :
استدلوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته).
والجواب عليه :
ان هذا الحديث لم يرد في سياق الاخبار بعموم حكم الرؤية جميع البلدان عند ثبوتها في بلد ما ؛ وإنما ورد في سياق النهي عن تقدم شهر رمضان بالصوم قبل ثبوت الرؤية ، هذا هو سبب ورود الحديث.
وقد قيل : "معرفة الاسباب معينة على التأويل" .
ولهذا أكّد اهل العلم على ضرورة
معرفة أسباب نزول القرآن..
قال ابن تيمية: "معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب".
وقال ابن دقيق العيد: "بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن".
ومن الروايات التي بينت ان سبب هذا الحديث هو النهي عن تقدم الرؤية بالصوم:
١- رواية الشيخين عن ابن عمر : « لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمى عليكم فاقدروا له ».
٢- رواية الترمذي عن أبي هريرة : ( لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا).
٣- رواية الترمذي عن ابن عباس :( لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوما).
٤- رواية البيهقي عن عمر بن الخطاب : « لا تقدموا هذا الشهر ، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين ».
فهؤلاء أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يروي هذا الحديث ويبين أن سبب وروده هو النهي عن تقدم شهر رمضان بالصوم .
وإذا كان هذا هو سبب الحديث وهو الغرض الذي سيق الكلام من اجله فإنه يستحيل ان يقال بان الغرض الذي يدل عليه الحديث هو الاخبار بعموم الرؤية؛ لان الغرض الاول انشاء وهذا الاخير خبر وهما لا يجتمعان في الكلام على سياق واحد .
قال العطار في حاشيته على المحلي :
(الخبر والإنشاء متقابلان فلا يجتمعان في كلام واحد باعتبار واحد كما هو شأن المتقابلين)
حاشية العطار على المحلي على جمع الجوامع(1/66) ط : دار الكتب العلمية .
وفي هذا دليل على ان قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته" ليس الغرض منه الاخبار عن عموم الرؤية.
ومما يدل على هذا أيضا ان الحديث رواه جمع من الصحابة ولم يؤثر عن أحد منهم انه قال بعموم الرؤية، فكيف يُفَسّرُ الحديث تفسيرا لم يقل به جميع رواة الحديث ؟
اضافة الى ما سبق : فان قوله صلى الله عليه وسلم (صوموا لرؤيته) محتمل الدلالة؛ لان فعل الامر "صوموا" يحتمل ان يكون الخطاب فيه موجها الى الامة بعمومها..
ويحتمل ان يكون موجها الى اهل كل بلدة بخصوصها .
وقوله "لرؤيته" مصدر مضاف الى مفعوله ،والفاعل يمكن تقديره بالامة ويمكن تقديره بالبلدة .
ولهذا ا استدل بهذا الحديث ايضا من قال بان لكل اهل بلد رؤيتهم ..
لان مفهومه يدل على ان اهل البلد الذين لم يروا الهلال لا يصومون.
وفي ذلك يقول الجصاص :(وكل قوم رأوا الهلال فالفرض عليهم العمل على رؤيتهم في الصيام والإفطار بقوله صلّى اللّه عليه وسلم : "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" ويدل عليه اتفاق الجميع على أن على أهل كل بلد أن يصوموا لرؤيتهم وأن يفطروا لرؤيتهم وليس عليهم انتظار رؤية غيرهم من أهل سائر الآفاق فثبت بذلك أن كلا منهم مخاطب برؤية أهل بلده دون غيرهم) أحكام القرآن (الجصاص) ، ج 1 ، ص : 275.
فدل هذا على ان الحديث محتمل الدلالة..
والدليل اذا تطرق اليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وبالله التوفيق.
******
الدليل الثاني :
استدلوا بحديث أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: ( أغمي علينا هلال شوال، فأصبحنا صيامًا، فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا، وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغد).رواه الخمسة الا الترمذي .
قالوا : فهؤلاء الركب رأوا الهلال في مكان بعيد وأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم برؤيتهم فحكم بها.
والجواب على هذا الاستدلال :
ان الزمن الفاصل بين الرؤية والتبليغ بها في هذا الحديث هو يوم وليلة.
والجمهور قدروا مسيرة اليوم والليلة بستة عشر فرسخا ؛ والفرسخ ثلاثة أميال ؛ ومجموع هذه المسافة تساوي ثمانين كلم ونصف.
وهذا بسَيْر الإبل المحملة بالأثقال سيرا معتادا.
ولا شك ان مسافة ثمانين كلم تعتبر من اطراف المدينة وما حولها وماقارب الشيء يعطى حكمه ، وقد تشترك معها في وقت الصلاة فكيف لا تشترك معها في الرؤية ؟
فإن قالوا : في هذا الحديث لم يسالهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهة التي أقبلوا منها و"ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال" ؛فيلزم القول بعموم الرؤية.
قلنا لهم : ليس ذلك بلازم..
لان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف هؤلاء الركب الذين شهدوا عنده والجهة التي قدموا منها؛ ولا بد ان يكونوا سمّوا له الموضع الذي رأوا فيه الهلال،ولكن الراوي لم ينقل ذلك الينا؛ او لم تبلغه تفاصيل القصة.
والمسافة يمكن تحديدها على وجه التقريب من خلال الزمن المذكور في الحديث كما فعلنا.
واولى من هذا ان يقال : ان الراوي لم يبين لنا الجهة التي قدم منها هؤلاء الركب ، فمعرفة ذلك مما يزيل اللبس
فاذاكانوا قادمين من جهة الغرب فلن يكون الهلال ظاهرا في المدينة وقت رؤيتهم له، لانه متى ابتدأت رؤية الهلال على خط من خطوط الطول، فجميع البلاد التي تقع شرقه لا يكون الهلال ظاهرًا فيها.
وإذا كانوا قادمين من جهة الشرق
فرؤيتهم قد تنسحب على أهل المدينة لانه اذا رؤي الهلال على خط فكل البلاد الواقعة غربي هذا الخط يكون الهلال ثابتًا عندها مهما اختلفت المطالع.
وهذا ليس مثل حديث كريب لأنا عرفنا الجهة التي قدم منها كريب.
أما هؤلاء الركب فيحتمل ان يكون قدومهم من جهة الشرق ؛ ويحتمل ان يكون من جهة الغرب.
والدليل اذا تطرق اليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
وبالله التوفيق.
****
ثانيا : اجوبة على بعض الاستدلالات :
--------------------------------
هناك بعض الاستدلالات التي ذكرها القائلون بعموم الرؤية ؛ لا ترقى لان تكون دليلا ؛ لكن المتمسك بالقول الضعيف دائما يكون مثل الغريق الذي يتمسك بكل قشة !!
ومن هذه الاستدلالات :
الاستدلال الاول :
بعض المعاصرين حاول رد حديث بن عباس بقوله : لو تعدت الرؤية للزم تعدد ليلة القدر، وقد خصها الله تعالى بإحدى ليالي الوتر.
والجواب على ذلك : ان ليلة القدر فيها اقوال كثيرة من ضمنها انها تنتقل؛ وهي مخفية على العموم فلا يُجزم بتحديدها.
ويقال فيها ما يقال في فضل يوم عرفة عند اختلاف الرؤية ؛ وفي مسالة نزول ربنا سبحانه وتعالى في الثلث الاخير من الليل.
****
الاستدلال الثاني :
ربما يكون من الصدام لك ان تعلم ان من ضمن الادلة التي جعلت بعض العلماء يرجّحون القول بعموم الرؤية هو اعتقادهم بأن الأرض مسطحة ، وقد كان هذا القول منتشرا بين العلماء قديما واكثر من ناصره العلماء المتمسكون بالنصوص الرافضون لعلوم الفلاسفة..
كما قال القحطاني في نونيته :
كذب المهندس والمنجم مثله**
فهما لعلم الله مدعيان
والأرض عند كليهما كروية**
وهما بهذا القول مقترنان
والأرض عند أولي النهى لسطيحة**
بدليل صدق واضح القرآن.
وقال ابن عطية في تفسيره :
(وأما اعتقاد كونها بسيطة فهو ظاهر كتاب الله تعالى، وهو الذي لا يلحق عنه فساد البتة. واستدل ابن مجاهد على صحة ذلك بماء البحر المحيط بالمعمور، فقال: لو كانت الأرض كروية لما استقر الماء عليها)انتهى.
و لا شك بان من يظن الارض مسطحة سوف ينتصر للقول بعموم الرؤية لانه يعتقد بان الهلال في الدنيا هلال واحد .
وقد ذكر هذا الاستدلال ابن الملقن حيث قال :
(وأذا رؤي ببلد لزم حكمه البلد القريب اي قطعا دون البعيد في الاصح
لان لكل اهل بلد رؤيتهم والثاني يجب لان الهلال واحد والخطاب شامل ولان الارض مسطحة) "عجالة المحتاج الى توجيه المنهاج" ص: 2/521.
ط: دار الكتاب الثقافي.
لكن شيخ الاسلام بن تيمية نقل الإجماع على كروية الأرض فقال :
(وكذلك أجمعوا على أن الأرض بجميع حركاتها من البر والبحر مثل الكرة .... ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوجد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد ، بل على المشرق قبل المغرب " انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/195) .
*****
الاستدلال الثالث :
يطرح بعض المعاصرين استشكالا فيقول :
اذا قلنا بان لكل أهل بلد رؤيتهم ؛ فهذا يعني التقيد بالحدود السياسية ؛ وهي غير معتبرة شرعا !!
والجواب على ذلك:
ان حديث كريب بين بالصيغة الصريحة ان لكل أهل بلد رؤيتهم.
ولكنه لم يتعرض لبيان الحد الفاصل بين البلدان .
فبقي في المسالة متسع للاجتهاد
..
وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من حدّه بمسافة القصر ، لكونها مسافة جعلها الشارع حدّا معتبرا للبعد.
ومنهم من حدّه باعتبار الاختلاف في المطالع .
ومنهم من حدّه باعتبار الحاكم في كل بلدة .
والناس حينما يتقيّدون اليوم بالرؤية في بلادهم ؛ فليس ذلك راجعا الى اعتبار الحدود السياسية ؛ بل هو راجع الى التبعية للأحكام الصادرة من الحاكم؛ ونفوذ الحكام اليوم محدد برقعة جغراغية محددة بالحدود بغض النظر عن ظروف ترسيمها؛ فقد اصبحت اليوم واقعا يفرض نفسه ؛ ويلقي بظلاله على الاحكام الشرعية ؛ ويعتبر تجاهلها نوعا من عدم الواقعية يفضي الى اشكالات كبيرة .
وهذا يدلك على ان قاعدة "المعدوم شرعا كالمعدوم حسا" ليس من المصلحة تطبيقها في كل حال .
ولهذا قال العلماء قديما بوجوب السمع والطاعة للمتغلب.
****
ثالثا : أجوبة على بعض الاعتراضات على حديث كريب :
---------------------------
الاعتراض الاول :
اورد الشوكاني رحمه الله على حديث كريب اعتراضا فقال :(وعدم عمل ابن عباس برؤية أهل الشام مع عدم البعد الذي يمكن معه الاختلاف عمل بالاجتهاد وليس بحجة !) نيل الاوطار (208/3)ط : دار الكتب العلمية.
وقد رد على هذا الاعتراض جمال الدين الاسنوي فقال :
(واعلم ان المطالع قد تختلف فيلزم من رؤيته في الشرقي رؤيته في الغربي ، ولا ينعكس، وذلك ان الليل يدخل في البلاد الشرقية قبل دخوله في البلاد الغربية ،وعلى ذلك حديث كريب فإن الشام غربية بالنسبة الى المدينة فلا يلزم من رؤيته بالشام رؤيته بالمدينة)انظر :الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر الهيتمي(ص:9 /2)ط: دار الكتب العلمية.
ويوضح ما ذكر الاسنوي ان اهل الفلك يقولون : إذا ابتدأت رؤية الهلال على خط من خطوط الطول، فجميع البلاد التي تقع شرقه لا يكون الهلال ظاهرًا فيها، ولا يرى إلا في الليلة التالية. وعلى هذا يمكن ان يفسر حديث كريب.
حيث تقع دمشق على خط الطول 36.18 شرقا .
وتقع المدينة المنورة على خط الطول 39.6 شرقا .
ولهذا راى اهل الشام الهلال ليلة الجمعة ؛ ولم يره اهل المدينة الا ليلة السبت.
كما ان دمشق ارتفاعها عن سطح البحر 2231 قدما.
والمدينة ارتفاعها عن سطح البحر 2034 قدما.
وهذا يعني ان الرؤية في دمشق ايسر من الرؤية في المدينة .
وفي هذا دليل على ان البعد بين دمشق والمدينة يمكن ان يحدث معه الاختلاف في الرؤية ؛ لا كما ظن الشوكاني رحمه الله.
*****
الاعتراض الثاني :
تأول ابن قدامة في المغني عدم أخذ ابن عباس بقول كريب على انه من باب اشتراط شهادة عدلين في رؤية الهلال ؛ فقال : (فأما حديث كريب، فإنما دل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده)المغني(3/65)ط: دار الكتب العلمية.
واجاب على هذا الاستشكال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، حيث قال عند المسالة السابعة : ( واختلف في تأويل قول ابن عباس هذا فقيل رده لأنه خبر واحد وقيل رده لأن الأقطار مختلفة في المطالع وهو الصحيح لأن كريبا لم يشهد وإنما أخبر عن حكم ثبت بشهادة ولا خلاف في أن الحكم الثابت بالشهادة يجزى فيه خبر الواحد ).
وحديث كريب فيه تصريح بسبب ترك العمل برؤية اهل الشام حيث قال كريب لابن عباس :
"أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه"؟ فقال: "لا، هكذا أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم" .
****
ختاما :
فان حديث كريب هو العمدة في هذا الباب ؛ وكل ما سواه ضرب من الاحتطاب !
حديث كريب نصٌ لا يحتمل التأويل؛ و رفعه الى النبي صلى الله عليه وسلم قام عليه الدليل..
وعمل ابن عباس به لم يخالف فيه صحابي كبير ولا تابعي شهير ..
بل جرى عليه العمل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الصحابة والتابعين .
وأما القول بعموم الرؤية فلم يصحبه عمل الأولين ؛ ولم يَصِرْ إليه مسلك الآخرين..!
بل كان ولا يزال مسألة نظرية تُخَطّ بالأقلام ولا تسعى بها الأقدام!
والحمد لله على التمام .