في بيئة لم تكن فيها ساعة تشعر المصلي بدخول الوقت، ولا منبه يوقظ النائم من نومه ؛ امر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا ان يرفع صوته بالأذان للاعلام بدخول الوقت؛ ولتنبيه الغافل وإيقاظ النائم..
وصار الأذان سنة مامورا بها في كل مسجد ، ومطلوبة من كل جماعة طلبت غيرها في الصلوات الخمس والجمعة.
ثم جعله النبي صلى الله عليه وسلم شعيرة من شعائر الاسلام الظاهرة وعلامة دالة على اسلام اهل القرى فكان لا يغزو أهل قرية يسمع فيها أذانا..
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرفع من المسجد الا الأذان ..
وكل ما كان يحدث في المسجد من صلاة وتلاوة وتعليم كان قاصرا على أهل المسجد لا يصل الى من هم خارجه.
ثم تصرمت القرون والأعوام سريعة
..حتى جاء القرن الرابع عشر ، فظهر اكتشاف مكبرات الصوت ، وقامت دعوات بالاستعانة بهذه المكبرات من أجل تحقيق المقصد الشرعي في الامر برفع الصوت بالأذان ، والوسائل الى المقاصد الشرعيةمطلوبة ..
قَبِلَ ذلك بعض العلماء وافتوا بمشروعية رفع الأذان في المكبرات في حين بقيت بعض الاصوات الرافضة لهذا الامر بحجة انه امر محدث لم يكن عليه عمل السلف .. ومع مرور الأيام وتعوُّدِ الناسِ على رفع الأذان في المكبر ؛ ضعفت حدة الرافضين لهذا الامر ، ثم خفَتَ صوتهم ، ثم تلاشى كليا ...
وحدث ما يشبه الاجماع على مشروعية رفع الاذان بمكبر الصوت..
لكن -كما يحدث دائما- فقد تحولت الوسائل الى مقاصد ! ؛ ولم يعد استخدام مكبر الصوت الخارجي قاصرا على رفع الأذان فقط !
بل تطور ليشمل الاقامة ونقل الصلاة كاملة !
وهنا تدخل بعض العلماء الكبار من أمثال ابن عثيمين والألباني رافضين لهذا الأمر الذي أدى الى التوسع في الرخصة والزيادة عن موضع الحاجة.
والسنة ان يكون الاذان ارفع من الإقامة ؛ وارفع من أداء الصلاة ؛ ونقلهم جميها بمكبر الصوت الخارجي يسوي بينهم في الدرجة !
والملاحظ ان نقل الاقامة والصلاة في مكبر الصوت الخارجي كان له اثر سلبي على المصلين وقد رسّخ ظاهرة أصبحت عامة في المساجد كلها !
كانت المساجد قبل مكبر الصوت عامرة بالمصلين، لان الناس يقبلون على المسجد بمجرد سماعهم للاذان خشية ان تفوتهم الصلاة ،فيكتظ المسجد بالمصلين قبل ان يحين وقت الإقامة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه : "لم تزالوا في صلاة منذ انتظرتموها" رواه البخاري.
وأما بعد ظهور مكبر الصوت الخارجي ونقل الاقامة والصلاة عن طريقه ؛ فقد اصبح الناس يتاخرون عن المسجد لانهم ينتظرون سماع الاقامة او ينتظرون شروع الإمام في الصلاة ، فحرموا بسبب المكبرات اجر الرباط في المسجد.
***
لكن الامر لم يتوقف عند رفع الاقامة والصلاة في مكبر الصوت الخارجي؛ بل تطور الى فتح تلاوة القرآن في هذ المكبر من حين لآخر ؛ ونقل جميع الخطب والمحاضرات والدروس؛ وأوراد الصوفية ؛ والكلمات التي تلقى في المسجد عن طريق المكبر الخارجي، في أي ساعة ودون تحديد بوقت؛ ودون مراعاة لحالة جيران المسجد الصحية والاجتماعية ؛فقد يكون في جيران المسجد المرضى المصابون بالضغط وامراض القلب والاعصاب التي لا يتحمل اصحابها الاصوات العالية ..
ولكن القائمين على المسجد لا يشعرون بمن حولهم ولا بما يسببون للجيران من الضرر!
بل يتقرّبون الى الله تعالى بجعل صوت المكبر في أعلى الدرجات غافلين عن الضرر الذي تسببه شدة الصوت .
فإن الأصوات التي تبلغ قوتها 85 ديسيبل أو أكثر تشكل خطرا على الأذن، وقد تؤدي إحداث ثقب مباشر في طبلة الأذن.
وإذا كانت زحمة المرور قد تسجل حوالي 90 ديسيبل، فما بالك بالدرجة
التي سيسجلها صوت المكبر الخارجي للمسجد !
وكم من جار للمسجد اضطر الى إحكام غلق أبواب منزله ونوافذه بسبب قوة مكبرات المسجد !
وقد يظن الكثير من القائمين على الانشطة في المساجد أنهم يحسنون صنعا حين يفرضونها على جيران المسجد من خلال مكبر الصوت ؛ في حين أن حالة هؤلاء الجيران ربما لا تكون مهيئة لهذا النشاط ..
فقد يكون منهم القافل من عمله متعبا يراوده الكرى ؛ او المريض المتوجّع يعالج الألم بنومه ، او الأم تهدهد الطفل الرضيع في مهده ، او الطالب العاكف على مراجعة درسه ،
لكن الصوت القوي الصادر من المسجد سواء كان صلاة او تلاوة او درسا او اوراد صوفية يمنع من ذلك كله !!
وقد يصدر صوت المكبر من المسجد قويا منبعثا بالقرآن يخترق الأبواب والنوافذ يملأ سمع الجيران في بيوتهم وهم على حالة لا تلائم سماع القرآن ، فقد يكونون مع الزوار في جلسة لهو ومرح، او مناسبة اجتماعية ؛ وقد يكون الرجل في خلوة مع زوجته فيحرجه سماع القرآن على تلك الحال ؛ وقد يكون في دورة المياه لقضاء حاجته فبأي قلب يعي القرآن ؟
وقداسة القرآن توجب صونه عن الابتذال في ومثل هذه الأحوال.
قال في الفتاوى الهندية :
(لا يقرأ جهرا عند المشتغلين بالأعمال ومن حرمة القرآن أن لا يقرأ في الأسواق ، وفي موضع اللغو كذا في القنية) ( الفتاوى الهندية: ج 5 ص 391 ط دار الكتب العلمية )
وقال في شرح المنتهى: (لا يجوز رفع الصوت بالقرآن في الأسواق مع اشتغال أهلها بتجارتهم وعدم استماعهم له؛ لما فيه من الامتهان.) ا.هـ
وقال ابن أبي زيد في الرسالة :
(ويقرأ الراكب والمضطجع والماشي من قرية الى قرية ويكره ذلك للماشي الى السوق)؛ وعلق عليه ابنة ناجي بقوله :
(قال عبد الوهاب : الماشي الى السوق في قراءته ضرب من الإهانة للقرآن في قراءته في الطرقات وذلك خلاف ما أمرنا به .) شرح ابن ناجي على الرسالة (483/2)ط: دار الكتب العلمية.
*****
اذا تقرر هذا ...فاعلم أن من أعظم الضرر الحاصل اليوم لجيران المسجد ما يقوم به المتهجدون في المساجد من أداء صلاة التهجد في المكبر الخارجي ؛ مع ان الوقت وقت نوم وسكون ؛ وصلاة التجهد ليست بالامر الواجب على الناس حتى يمنعوا من النوم لأجلها ؛ وبعض الناس يحتاجون الى النوم في هذا الوقت ليتمكنوا من مزاولة أعمالهم الضرورية في الصباح ؛ وليت شعري !
اذا كان النداء لهذه الصلاة غير مشروع ؛ فكيف يشرع إيقاظ الناس لها بمكبر الصوت ؟
لقد أصبح نقل الصلاة بمكبر الصوت مسالة معتادة يحرص الناس عليها حتى في الحالات التي لا يطلب فيها دعوة الناس الى هذه الصلاة !
وقد رأيتُ بعض المساجد ينقلون الصلاة بالمكبر الخارجي أثناء المطر الشديد ؛ فيضطر الناس وهم كارهون الى الخروج في هذا المطر أسوة بالإمام ومن معه من المصلين !
وفاعل هذا لا يسمى فقيها..بل هو عدو للفقه !!
***
ان أداء القربة والطاعة ينبغي ان يكون على وجه لا ضرر فيه ولا أذية للآخرين.
وقد ورد في حديث ابي سعيد الخدري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(ألا إن كلّكم يناجي ربه فلا يؤذينّ بعضكم بعضا ؛ ولا يرفعنّ بعضُكم على بعض في القراءة).
رواه مالك ابو داود والنسائي و أحمد.
قال بن عبد البر في التمهيد تعليقا على هذا الحديث : (وإذا نهي المسلم عن أذى المسلم في عمل البر وتلاوة القرآن فأذاه في غير ذلك أشد تحريما).
والقراءة في السحر بصوت عال يزعج الناس ويمنعهم من النوم تستوجب الاثم لما فيها من الضرر والأذى والتعدي على حقوقهم في الراحة .
وقد نصّ على حرمة ذلك في الفتاوى الهندية فقال : (لو قرا على السطح في الليل جهرا ياثم) الفتاوى الهندية (5/367)ط:دار الفكر .
و ورد في الحديث :؛ «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرّ بالقرآن كالمسر بالصدقة». (رواه أبو داوود والترمذي).
وقال الإمام النووي في بيان الحالات التي يكون اخفاء التلاوة فيها هو الافضل : « الإخفاء أفضل حيث خاف الرياء أو تأذي مصلين أو نيام بجهره»
.[التبيان في آداب حملة القرآن ص: 105]
وقال ابن الجوزي – رحمه الله: (وقد لبس إبليس على قوم من القراء فهم يقرأون القرآن في منارة المسجد بالليل بالأصوات المجتمعة المرتفعة الجزء والجزأين فيجمعون بين أذى الناس في منعهم من النوم وبين التعرض للرياء). تلبيس إبليس (ص: 175).
والخلاصة :
ان القائمين في صلاة التهجد ينبغي ان يصلوا لانفسهم ؛ ولا يزعجوا الجيران النائمين من حولهم؛ فذلك اقرب الى الخشوع وابعد عن الرياء.