يظهر في هذه الايام بعض المدعين لرؤية ليلة القدر، ومعرفتها بعينها، دون سائر الليالي، اما بعلامة باهرة ؛او برؤيا في المنام ظاهرة ؛ وأصبحت المسالة بابا من ابواب التنافس بين المدعين للصلاح والمروجين لانفسهم
بالادعاء الباطل والرؤى الكاذبة!!
فمنهم من يدعي رؤية الانوار ساطعة !
ومنهم من يدعي رؤية الجمادات ساجدة !
ومنهم من يدعي رؤية الملائكة نازلة !
وشغلوا الناس بالحديث في ليلة القدر عن العبادة فيها!
وكل ذلك من اجل اظهار صلاحهم واعلاء مزاياهم !!
واقتدى بهم في ذلك الباحثون عن الشهرة والبارزون للأضواء !!
وثالثة الأثافي : أصحاب اللايكات الحاصدون للإعجابات !!
وغاب عن هؤلاء جميعا انهم بصنيعهم هذا يناقضون الحكمة التي من أجلها أخفى الله تعالى ليلة القدر!
لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانه عرف ليلة القدر على التعيين ثم قال : وإنّي نُسِّيتُها..
فقد روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي ﷺ ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: (خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة).
وقوله : (تلاحى فلان وفلان) اي : تخاصما.
وقوله : "رفعت" أي : رفع علمه بها على التحديد.
وقوله : "وعسى أن يكون خيرا لكم" تنبيه على الحكمة الجليلة من اخفاء ليلة القدر ؛ لانها اذا أخفيت فسوف يجتهد الناس في العبادة سائر الليالي من أجل مصادفة ليلة القدر .
قال الحافظ ابن حجر :( الحكمة في إخفاء ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها بخلاف ما لو عُيّنَتْ لها ليلة لاقتُصِرَ عليها.)"فتح الباري" (4/ 315).
وقال الفخر الرازي في"التفسير الكبير": (انه تعالى أخفى هذه الليلة لوجوه:
أحدها: أنه تعالى أخفاها كما أخفى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل... وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل الأسماء، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل، وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسام التوبة، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف... فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان)اهـ.
لكن المتباهين بمعرفة ليلة القدر يناقضون هذه الحكمة ويثبطون الناس-شعروا او لم يشعروا- عن الجد والاجتهاد في ليالي هذا الشهر المبارك لأنهم يختصرونه في ليلة واحدة !
وقد يظن البعض أن إخباره برؤية ليلة القدر بمنزلة إخبار الصحابة برؤيتهم لها ..
فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رجالا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:« أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان مُتحرِّيها فليتحرّها في السبع الأواخر».
وفي هذا الحديث مسألتان مهمتان :
المسألة الاولى : ان رؤيا الصحابة رضي الله عنهم لليلة القدر لم تكن على التعيين ، وإنما راوا أنها "في السبع الأواخر"؛ وهذا لا يشاغب على الحكمة من إخفائها ؛ بخلاف من يدعي انه رآها ليلة ثلاث وعشرين او ليلة خمس وعشرين فهو يحدد الليلة بعينها!!
المسالة الثانية: ان رؤيا الصحابة رضي الله عنهم أقرّها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكانت مثل إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لرؤيا عبد الله ابن زيد في الأذان.
والرؤيا التي أقرها النبي صلى الله عليه وسلم تثبت بها الاحكام ؛ بخلاف غيرها من الرؤيا فإنها لا تثبت بها الاحكام.
قال النووي في المجموع: لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال، فرأى إنسان النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام، لا لصاحب المنام ولا لغيره. انتهى
ونقل القاضي عياض اجماع أهل العلم على أن الرؤيا لا تبطل بها سنة ثابتة ؛ ولا تثبت بها سنة لم تثبت.
فكل من رأي في منامه ان ليلة القدر هي إحدى ليالي الشهر على التعيين فيجوز له ان يستأنس بهذه الرؤية في نفسه؛ ولا يخبر الناس بذلك .
لانه لا يعلم ان كانت رؤياه صادقة ام كاذبة..
ولان الرؤيا في الاصل انما هي للاستئناس فلا تثبت بها الاحكام..
ولأن ليلة القدر اخفاها الله تعالى فلا ينبغي له المشاغبة على حكمة الاخفاء .
وينبغي كتم الرؤية إذا ترتب على العلم بها مفسدة ؛ كما قال يعقوب عليه السلام : { يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك}.
قالوا : ومن رآها على التعيين فهي كرامة ؛ والكرامة ينبغي كتمانها والا تعرض صاحبها للرياء .
واستنبط السبكي استحباب كتمنها من إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بإخفائها وعدم الاخبار بها.
لهذا نجد ان بعض أهل العلم يقول بان ليلة القدر لا يمكن لاحد معرفتها على التعيين بعلامة او رؤيا؛ وكل من رآها بعلامة جازمة أو رؤيا صريحة فعلامته غير حقيقية ورؤياه غير صادقة.
اذ لا يمكن ان يطلع عليها أحد بعد ان ان أخفاها الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم.
وذهب كثير من اهل العلم الى ان رؤيتها ممكنة ؛ ولكنهم يقولون : من رآها لا يخبر بها غيره.
قال الماوردي : (يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها)الحاوي الكبير (3/484).
ونقل ذلك عنه النووي في المجموع ؛ وبه قال شمس الدين الشربيني في الإقناع.
والخلاصة : ان اصحاب المنامات عليهم ان يكفوا عن هذه المزايدات !
وان يعقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله في اخفاء ليلة القدر : " وعسى ان يكون خيرا لكم".