ثانيا مشاكل الإرث الإنساني :
يثار مشكل الإرث الإنساني في موريتانيا منذ بعض الوقت ، بل وتوجد جذور له في محطات قديمة نسبيا من تاريخ الدولة الوطنية كأحداث 1966 الأليمة وما نجم عنها من صدامات في صفوف تلاميذ المدارس ، غير أن هذا المشكل بلغ حد الانفجار في نهاية الثمانينات نتيجة لعوامل كثيرة لا يمكن أن نهمل أو نستبعد من بينها العامل الأهم ؛ العامل الخارجي .
إن روافع مشاكل التجاوزات الانسانية في موريتانيا إن صح التعبير هي الاضطرابات السياسية خاصة تلك التي تلبس لبوسا إثنيا ، والانقلابات العسكرية ، إضافة إلى الحراك السياسي الوطني الذي تزعمته في مراحل عديدة المدارس الايديولوجية الكبرى من يسار وبعث وناصريين وإسلاميين في مراحل متأخرة نسبيا ، وسنعطي نبذة يسيرة عن كل أو بعض ذلك رغم أن الموضوع كبير ومتشعب .
إن أحداث العام 1989 يجب أن لا تمحو من الذاكرة ما قبلها من أحداث أثرت وساهمت خاصة حراك القوميين الزنوج ؛ فخلال قمتي منظمة الدول الافريقية وقمة عدم الانحياز في أديس أبابا وهراري على التوالي سنة 1986 تم توزيع ما يسمى ب"بيان الزنجي الموريتاني المظلوم" يتحدث البيان بلغة عنصرية واضحة ويسمي النظام الحاكم آنئذ ؛ نظام معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع ب"الآبارتايد" وبالظلم ، ويدعو للعصيان والتمرد والعنف.
إن ما لم يفهمه الإخوة في إفلام آنئذ أو لم يريدوا أن يفهموه أصلا ولا أظنهم سيقبلونه مطلقا هو أن النظام الحاكم لا يمثل البيظان ، وردة فعله التي لم تتأخر كانت لحماية عرشه حتى لو كان مصدر الخطر عربي قح من الجزيرة ، أو أحد الجيران من أبناء الأسرة العلوية الهاشمية في المغرب الشقيق.
بدأ النظام مباشرة ودون أن يضيع لحظة واحدة بعد البيان الآنف الذكر برجليه القويين ؛ وزير الداخلية الجديد حينها المقدم جبريل ولد عبد الله ومدير الأمن النقيب إعلي ولد محمد فال في تفكيك الجزء المهم من حركة إفلام عبر ضربات أمنية متلاحقة سريعة وفعالة.
أصابع الاتهام حينها في نواكشوط كانت موجهة فيما يخص تقديم الدعم والتحريض لإفلام إلى الثلاثي ؛ المعارضة السنغالية ، عصبة دول إفريقيا ، إسرائيل.
ليس سرد هذه الوقائع هنا هو هدفنا لكن بعض المحطات تستحق أن نتوقف عندها قليلا.
إن ردة فعل النظام أيضا على محاولة انقلاب 1987 وما حصل فيها لم يكن مبالغا فيها من وجهة نظرنا إذا أخذنا في الاعتبار الظروف المحلية والدولية ، وخطورة التهمة التي وجهت للمتآمرين الذين كانوا من إثنية واحدة فقط ، إضافة إلى أن طريقة التعامل هذه لم تكن سابقة في تاريخ البلد.
إن قانون الانقلابات العرفي آنذاك بسيط ومعروف خاصة في دول إفريقيا حيث يتم زف الانقلابيين ببساطة إلى القصور إن نجحوا ، أو إلى القبور إن فشلوا بعفوية وتلقائية ودون كثير جلبة أو ضوضاء ، إن هذا القانون ليس مكتوبا ولكنه أقدس من كل القوانين بحكم الممارسة والتطبيق لدرجة التواتر.
من منا معاشر الموريتانيين يمكن أن ينسى إعدام انقلابيي 16 مارس 1981 الضباط الأربعة ؛ المقدم محمد ولد عبد القادر (كادير) ، المقدم أحمد سالم ولد سيدي سليل إمارة اترارزه ، الملازم انيانغ مصطفى ، الملازم محمد دودو سك تغمدهم الله جميعا بواسع مغفرته وعفوه ؟
إن إعدام هؤلاء الضباط كان حدثا هز الموريتانيين وإن غفر التاريخ لمن فعلوه فرجولتهم مجروحة وكبرياؤهم مهزوز إن لم نقل زائف ، وإلا كيف يتم انتزاع دودو سك ـ الذي أصيب أثناء المحاولة إصابة بالغة خضع على إثرها لعملية جراحية ـ من بين أيدي الأطباء إلى المقصلة ليتم تنفيذ حكم الاعدام عليه في ظروف أقل ما يقال عنها إنها مشينة ومسيئة للقيم والكرامة والشهامة والذوق .
إن قال التاريخ الموريتاني يوما كل ما في جعبته ـ وسيقوله حتما ـ سيذكر هؤلاء الأربعة بالشجاعة النادرة والبسالة ، لقد استقبلوا الموت بطريقة هوليودية وبالابتسامات واللا مبالاة عكس ما روج له رأس النظام حينها الذي تمنى في ساعات القلق والاضطراب الأولى أن تنشق له الأرض لتبلعه .
لا أدل على شجاعة المغامرين الأربعة من اعتذار إنيانغ للجنود الذين سيعدموه ورفاقه عن حساسيته من البرد قائلا في لحظاته الأخيرة فجرا على ضفاف الأطلسي (أنا الآن أعاني من الارتجاف الشديد ، وأنا بطبيعتي لدي حساسية من البرد ، وحاليا البرد قارس ونحن على البحر وأنا بدون ملابس ، هذا هو سبب ارتجافي وليس الخوف من الموت لقد أبلغتكم ذلك حتى لا تعتقدوا بأنني أرتجف خوفا من الموت هذا كل شيء ... نفذ عملك).
أي شجاعة هذه وأي استهتار بالموت ؟ إنني لأنحني أمام رباطة جأش هؤلاء الفرسان .
لسنا في وارد الدفاع هنا عن شرعية ما فعل هؤلاء الضباط المغامرون لكن بسالتهم تستحق أن ننحي أمامها بأدب وتقدير وإجلال ، لقد ماتوا مرة واحدة فقط كما يقول شكسبير (يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم ، أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة) ، ولسان حالهم يردد مع القائد والإمبراطور نابليون بونابرت (لا يعني الموت شيئا ، لكن أن تعيش مهزوما وذليلا يعني أن تموت يوميا).
ويقول المتنبي :
وإذا لم يكن من المـــوت بد
فمن العجز أن تموت جبانا .
حتى الجنود الذين نفذوا فيهم حكم الاعدام من بينهم من بكى بحرقة لكن الاحتياطات الأمنية لوحدها شفعت له فلم يتمكن أحد من تحديد هويته إلى يومنا هذا ، ولو أنها حددت لذاق من الوبال أشكالا ومن الهوان صنوفا وألوانا.
حسبهم أن إمامنا المرحوم بداه ولد البوصيري رفض الإفتاء لهيداله بقتلهم ، بل ورثاهم في خطبة الجمعة الموالية لإعدامهم بعد أن هز منبره الخشبي مؤبنا ومشنفا الأسماع بندب الفارعة بنت طريف الشيبانية لأخيها الوليد ابن طريف :
أيا شجر الخابور مالك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف.
وتلك قصة أخرى وحديث ذو شجون .
من يستطيع حينها أن يفعل ما فعل لمرابط بداه ؟ لقد كان ديدن هذا الشيخ الشجاع أن يصدح بالحق أمام السلطان الجائر دون أي اكتراث بالعواقب .
وللتاريخ وعودة لمحاولة انقلاب 1987 فقد أسفرت المحاكمات عن إدانة وإعدام ثلاثة ضباط من أصل خمسين وتم سجن البقية مع الأعمال الشاقة ، وتوفي منهم ثلاثة في السجن حسب العديد من المصادر.
إن المطالبة بالتعويض لانقلابيي 1987 وخلق أساطير وقصص خيالية حول ملفهم تبدو غير منطقية أبدا ، لقد تم إعدام كادير ومجموعته وتسريح المئات من البعثيين وغيرهم من الجيش وأسلاك الأمن في الثمانينات على مراحل ، والزج بالآلاف من الناشطين السياسيين والنقابيين في السجون منذ عهد المختار ولد داداه وحتى انقلاب 2005 ، وحصل من التجاوزات بحق مختلف الاثنيات والنخب السياسية المدنية ما لا يعلمه إلا الله فكيف يمكن أن تقبل الدولة الموريتانية والنخب المثقفة استمرارية الانتقائية في هذه الملفات؟.
لنأخذ مثلا المختار رحمه الله لقد تم في عهده إطلاق الرصاص الحي من طرف الجيش على متظاهري عمال المناجم وسقط عدة قتلى أما الجرحى فكانوا بالعشرات .
إن أحداث 1989 الأليمة هي الأخرى قبل أن تتشعب ينسى أو يتناسى أغلبنا ـ لتداخل المؤثرات الخارجية الكثيرة والعوامل المحلية لأشقائنا السنغاليين ـ أنها نشبت بسبب مباشر وثانوي هو خلاف بين مزارعين سنغاليين من السوننكي من قرية جاورا ومنمين موريتانيين من الفولان ، وأسباب أخرى جوهرية عديدة ومتشابكة من ضمنها أزمة اقتصادية خانقة في جارتنا الجنوبية السنغال كانت تبحث عن طريقة لتصريفها إن صح هذا التوصيف .
إن أعمال النهب المنظمة لمحلات البيظان التي حصلت في باكل وماتام وعمت لاحقا كل المدن السنغالية يقول عنها سالي اندونكو رئيس الاتحاد العام للعمال السنغاليين في فرنسا ما نصه : (خلافا لما يعتقد البعض في الخارج ، فقد كانت تقوم بالنهب عصابات منظمة من اللصوص ... إنهم اللصوص الذين استغلهم بعض رجال السياسة في المعارضة في السنة الماضية من أجل إشعال الفتنة ، هم أيضا من أطلق شرارة نهب المحلات التجارية التي يملكها الموريتانيون) ، تهكمت أيضا صحيفة جون آفريك بما عرفته بصطلح "الشغب واقتصاد النهب" في توصيفها لما حدث لمحلات الموريتانيين في السنغال مشيرة إلى أن وراء الأكمة ما وراءها وأن ما حصل لا يخلو من تدبير .
أعمال العنف لم تنطلق في موريتانيا إلا بعد يومين مما حصل في السنغال ويقدر عدد القتلى الذين راحوا ضحيتها بين 100 و 150 حسب أسوإ المصادر تقديرا ، أما أعمال العنف في دكار من قتل وحرق فقد تراوحت تقديراتها بين 60 و 100 من البيظان في السنغال على أقل تقدير.
بدأت لاحقا عمليات التسفير المتبادلة من الطرفين وخيمت ظلال الحرب على المنطقة بأسرها ، وباتت الحدود بين البلدين ، بل ومع الجارة مالي أيضا جبهة مفتوحة مليئة بالتجاوزات ونهب قطعان المواشي .
إن ما حصل يندى له الجبين ومدمر من كلا الطرفين لكن من يمكن أن يتحمل المسؤولية هنا ؟
طبعا الأطراف المتصارعة ؛ النظام السنغالي ، المعارضة السنغالية ، إفلام ، إضافة إلى النظام الحاكم حينها في موريتانيا ، وقبل كل ذلك وأكثر منه القوى الدولية المحرضة التي كانت تنوي جر البلدين لحرب لا تبقي ولا تذر .
لقد تم تحميل موريتانيا لوحدها كل شيء ، وجلس الآخرون بعيدا يتفرجون !
إن الهدف من هذا السرد التاريخي ليس نكئا للجراح التي اندملت ولا تحريضا معاذ الله ، بل لوضع بعض الأمور في نصابها وتوضيحا للفئات الشابة لتكون على بينة مما حصل.
لقد باشرت الدولة في العقود الماضية عبر محاولات متكررة للتعويض وجبر الضرر نحترمها خاصة 2009 ولكن نذكر المتحاورين الآن أنه لا يمكن أن تظل هذه الملفات مفتوحة دوما ، وإذا كنا جادين حقا في ذلك وعازمين عليه لنعممه فهناك مئات التجاوزات وآلاف الضحايا منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر من كل الاثنيات والمدارس الايديولوجية والنقابات والعمال ، وأشك في أن الدولة قادرة على تحمل هكذا عبء وتسوية ملفاتهم جميعا عدا عن مشروعية آليات ذلك ومعاييره من وجهة النظر القانونية البحته.
نتمنى التوفيق للمتحاورين في فك شيفرة الملفات المستعصية ، وإيجاد الحلول المناسبة ، ووضع آليات لتطوير المسار الديمقراطي للبلد خاصة في ظل الانتخابات المرتقبة التي تلوح في الأفق ، ونعبر عن ثقتنا فيهم ونعقد عليهم آمالا جسيمة ، ونرجو أن تكون السلطات على استعداد لتوفير جو مناخي ملائم لتطبيق ما يتفق عليه المتحاورون.