أمريكا .. الاحتيار وبداية الانهيارِ / ابراهيم محمد مزيد

altوجدت أمريكا نفسها في الفترة الأخيرة وتحديدا منذ قيام الأزمة السورية في موقف من أكثر المواقف إرباكا لها من الناحية السياسية ووضع من أكثر الأوضاع إحراجا في تاريخها الحديث من حيث تهديد مستقبلها ؛لحد إمكانية أن يعصف بها بشكل قاصم قيام الاختلال المحتمل في الموازين الآن على الساحة الدولية ،

والذي تدعم المتغيرات والأحداث المتسارعة في الشرق الأوسط احتمال وقوعه بشكل كبير ووتيرة سريعة لا يمكن معهما التحكم به ولا الوقوف بوجهه إلا بتراجعات مؤلمة وتنازلات خطيرة قد تضرب في الصميم مقومات أمريكا الوجودية وتقضي على الركائز الحاملة والظروف الضامنة للبقاء في ريادة وسيادة العالم وتوجيهه والتحكم به ،وهي التراجعات والتنازلات التي يبدو أنها بدأت وربما ستأتي تترى لاحقا بعد انقطاع عقدها...

فبعد أن كان صوت أمريكا الوحيد المسموع في العالم،وصوتها الوحيد تقريبا الصادح بالفيتو في مجلس الأمن ؛مهما كانت عدم شرعية ما تدافع عنه ومخالفته للقوانين والأعراف الدولية وحتى أبسط المثل والقيم الإنسانية المتفق عليها بين بني البشر،إذ أصبحت تتصور أنه بإمكانها طرح ما تشاء متى تشاء حيث تشاء .. وبعد أن كان قرارها الوحيد المبرر والمفهوم أو المتفهم، وفهمها وتصورها الوحيدان المستساغان والمنطقيان والأقرب إلى الواقع..وأفعالها الأصوب والأجدى والأنفع لخدمة الشعوب في استقرارها ورفاهيتها وعصرنتها وإبعادها عن الراديكالية والدكتاتورية والهمجية وتقريبها من الحضارة والديمقراطية والاستقلال..وبعد أن استطاعت أن ترغم العالم أجمع على القبول بأن ما تريده فقط هو ما يكون مهما كان حجم رافضيه وأحقيتهم وشرعية رأيهم ومطابقته للنظم والقوانين والأعراف الدولية ، وأن ما لا تقف إلى جانبه أو تدعمه أو تقبله على الأقل فهو الذي يستحيل حصوله مهما كان..

هاهي أمريكا بعد ذلك كله تجد نفسها غير مطاعة ولا حتى مسموعة الرأي ؛بل بالعكس لحد أن أصبحت يتصدى لها وتناقش وتعارض بل وتجابه سياسيا وتقاوم وحتى تهدد بالمنازلة على الأرض إن تقدمت لذلك عسكريا ولو بخطوة واحدة مباشرة مهما كان صغرها ثم توعد بالهزيمة النكراء إن هي تجرأت وفعلت..ويأتي ذلك من جهات أثبت الوقائع قوتها وجدارتها وقدرتها على تنفيذ ما تقول وتعد به وأكثر .. وازداد الطين بلة على أمريكا بكون هذه الجهات لم تعد دولا محددة أو مجموعات بعينها بل كفة كبيرة يملأها قطب من العالم متكامل ووازن من جميع النواحي السياسية والاقتصادية وإقناع الخطاب وصدقه في مقابل الكفة المنحسرة والمتراجعة لأمريكا والدائرون في فلكها،والتي أصبحت لعبة خداعها وكيلها بأكثر من مكيال مسألة جلية مكشوفة لا يختلف عليها اثنان.

أمريكا هذه يبدو أنها بلغت اليوم في هذا التصور والجنوح الجامح لتطبيق مثل هذا النهج الحد الأقصى والسقف الأرفع والأعلى،وإذ أن مثل هكذا طريق يؤدي بذاته في تناقضاته إلى عدم توازنه وانهياره ويحمل في طياته عوامل سقوطه وزواله ،فليس بعد آخر نقطة منه إلا العد التنازلي له ،الشيء الذي إذا بدأ في مثله يتبع عادة بتقهقر بسقوط حر؛لأنه كلما كان الوزن كبيرا والثقل عاليا احتاج إلى كل أعمدته وحوامله ودعائمه ومستنداته ،وكلما كان التوازن حساسا جدا كان تأثر القواعد والأسس مهما كان مستواها ـ خصوصا إن كان كبيراـ خطير جدا ومؤذن بالتداعي والتحطم ..

لقد عاثت أمريكا اليوم فسادا في أجزاء كبيرة وكثيرة ومختلفة من العالم وتغطرست وتجبرت حتى لم تعد تستحيي من أي شيء وبلغ بها الغرور أن أصبحت تتصرف من منطلق الفوقية والنظر بدونية حتى للدول العظمى..الشيء الذي جعل الأخيرة تحس وتعلن التأثر والامتعاض مما يمارس ضدها ـ ولو بطريقة غير مباشرة ـ مما لا يناسب حجمها ووزنها وأنه قد تجاوز الحدود سواء كان تهميشا أو إقصاء أو تغييب فاعلية بمنع تأثير أو لعب دور وإبعاد عن الفعل أحيانا وعزل ومحاصرة وتضييق خناق أحيانا أخرى،بل ربما أريد لها أن تكون أطرافا في الجسم المتكون الآن على المستوى العالمي والذي يعمل بإرادة القلب الأمريكي المؤتمر والمتحرك بدوره بالأمر والتوجيه الإسرائيلي الصهيوني بل النابض بحركة الأيادي الإسرائيلية الماكرة الخبيثة التي هي الدم الذي يسري داخله ويعطيه طاقاته ..

وفي هذا الخضم صنعت أمريكا الأزمة السورية مستغلة أجواء ما يسمى بالربيع العربي كفرصة سانحة ونادرة ـ حسب رؤيتها ـ وربما لن تتكرر لمحاولة إشعال سوريا من أجل أن تبعد عن الكيان الصهيوني الخطر الذي أصبح داهما وتصنع حلم الشرق الأوسط الجديد،فتخلق منه منطقة أهلها خدم رقيق وأمواله ومقدراته ثروات الأمريكي وحده بها حقيق،وذلك بأقل تكلفة باعتماد الفوضى الخلاقة واستخدام كل أنواع الصفاقة..فتدمر من يحيطون بالكيان بأنفسهم وتقضي على بنيانهم وحضارتهم بسواعدهم وتمحو آثارهم وتاريخهم بأيديهم .. ويصبحون ـ لا سمح الله ـ آلات بأيديهم وسلما تحت أقدامهم لينفسح المجال وتتهيأ الأدوات ليكون الطريق سالكا للوصول إلى إمكانية تنفيذ الأجندة والمشروع المبرمج أيضا لإيران وحزب الله ،ومن ثم تتفرغ لإضعاف القوى العالمية الأخرى المهددة لها عسكريا واقتصاديا واستراتيجيا وفي النفوذ؛وهي روسا والصين وكوريا الشمالية..وربما لاحقا بعض دو ل أمريكا الجنوبية وغيرها .. وهو ما يخدم ويتماشى تماما مع المشروع الصهيوني المنصوص في "ابروتوكولات حكماء صهيون"إن لم يكن ينفذه ..

ذهبت الولايات المتحدة في هذا الطريق وأعلنت التهديدات ضد سورية وخرجت التصريحات .. وصنعت الشعارات .. وأحكمت الخطط ورسمت السياسات ونشطت الأيادي وخلقت الحركات وقويت التحالفات وجمعت المساعدات وسلك الطريق وحددت النهايات .. لكن حدثت المفاجآت وحملت أيام الأزمة الكثير من التأثير على مجريات التعامل .. فعجزت السيدة عن استصدار قرار أممي ضد سورية وعن إقناع العالم وحتى نفسها بإمكانية تطبيق نموذج ليبيا ، بل إذا بروسيا والصين تخرجان بوجوه مكشوفة وأصوات صريحة مدوية معلنة:فهمناك يا أمريكا سئمنا التعامل معك بحذر؛لا لمشروعك ؛نحن موجودون .. ولم يعد الأمر مسألة رفض فقط فإذا بروسيا تعلن بالفعل لا القول أنه إن حدث أن تجاسرت أمريكا فإن العالم سيدخل حربا ثالثة..وتدرك أمريكا وابنتها المدللة إسرائيل كل الإدراك مدى خطورة ذلك إذا ما انضاف إلى كماشة سوريا؛حزب الله؛إيران التي يمكن أن تنكمش على الورم الصهيوني الخبيث وتلتهمه وقد أثبتت ذلك حرب 2000 و 2006 وغيرها مع حزب الله وحده بما لا يدع مجالا للشك ،ما بالك بالأمر بوجود سوريا وإيران على الخط ؟!

لم تصدق أمريكا للوهلة الأولى ولم تقتنع ،وراهنت على تغير المواقف وتأثير الضغوط بشتى أنواعها وثقل وزنها ، لكن المواقف إزاء القضية ازدادت قوة وصلابة وكانت الرياح تجري طيلة سنتين بما لا تشتهي سفن من ترى كانت ترى نفسها سيدة الأمر قولا وفعلا في العالم .. فوجدت كبرياءها يخدش وهيبتها تنحط ،وخططها الماكرة المخادعة تنكشف ولم تعد تنطلي على أحد ؛لأن شواهد العراق وليبيا حية قائمة وبرمجة إلحاق مصر وتونس ـ إن هما لم تسيرا في خط الخدمة ـ غير خافية ..والأمر أصبح مفهوما حتى من أصغر وأقصر الناس فهما .. بل إن الأيادي التي تبطش بها أصبحت معروفة موصومة ...

حارت أمريكا إذن ودارت وفكرت وقدرت وفي النهاية اختارت.. خيار مفروض ليس أمامها غيره ،فقررت أن تتراجع عن محاولة تدمير سوريا والسير قدما في هذا الطريق ـ على الأقل ـ على هذا النحو وفي هذا الوقت أما التخلي النهائي عن ذلك فغير مطروح ما دام الكيان الصهيوني موجودا،ولم تجد من طريق أمامها سوى أن تتراجع ؛ولو أن تراجع مثلها يعتبر ركوعا يعكس تغيرا جذريا في الموازين الدولية ،فرأت بعد أن نزلت للواقعية قليلا بأن التصريحات ينبغي أن تكون في حدود المعقول والمقبول والمواقف يجب أن تتغير وتتبدل ،فخدشت كبرياءها بنفسها واضطرت لنقض تلميحاتها وإيحاءاتها وتلويحاتها وتعليقاتها وتهديداتها بتصريحاتها المضادة .. وإذا بسلسلة تراجعات لا تقف عند التخلي عن المضي قدما في المخططات السابقة بل تصل إلى التخبط في وحلها ومحاولة الخروج منها بأي مخرج مهما كلف ذلك من تنازلات .. فالمهم هو فقط أن لا يحدث ما لاحظت أمريكا أنه كان آت؛ واستدراك الموقف قبل الفوات.

ظهر التغير في ميزان قوى العالم إذن ، وبرزت قطبية مخيفة لابد أن يتعامل معها ؛ورجحت لغير أمريكا كفة الانتصار فوجدت قائدة العالم السابقة نفسها في وضع انحسار وانكسار،إذا فكرت تحتار وإن تحركت تصاب بالدوار ومهددة إن هي تقدمت بقرار يخدم المسار الماضي بالتدهور والدمار .. إنها تجد نفسها باختصار في بداية الانهيار.

26. فبراير 2013 - 0:33

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا