ما إن تلقف الإعلام ما بات يعرف بـ"بيان المنظمات الحقوقية" حتى انهال أهم نشطاء حزب التجمع الوطني للإصلاح والتنمية (تواصل) في العالم الافتراضي بصب اللعنات والأوصاف البذيئة على "اليسار الموريتاني" محملينه مسؤولية ما سطر في البيان المذكور وكأنهم يطاردون ثأرا تليدا كانوا يتربصون به الفرص،
ورغم أنني استفسرت بعضهم للتو إلا أن أحدا منهم لم يكن ليفصح عن ما يعني به "اليسار الموريتاني"، لتتكفل الأيام بفضحه أمس على أنامل مرتعشة لأحد كتابهم المغمورين حاول عبثا النيل من مناضلة حقوقية وسياسية لم تبلغ حد نضاليتها وجسارتها وتفانيها وخدمتها للمجتمع أية أخت إلى حد الساعة!
وعلى فكرة فلم تكن بداية الكاتب اليافع موفقة لأنها بدأت بنبرة استعلائية لم يفتأ صاحبها أن دحضها حين كرع في حضيض تواضع الأسلوب ومعيارية الأوصاف (الميوعة، الحقد، التآمر، صادما، ركيكا، جارحا، مسيئا، دنيء...)، واسترسل يهيم على وجهه في سلسلة من المغالطات برهن من خلالها على ضيق افقه وارتهانه لمنطق بال وولعه بمصادرة الآراء وبالادعاءات التي لا تجد ما تتأسس عليه. ولكي لا يبقى كلامي تجرديا فإني سألامس النص لأستخرج منه بعض الأمثلة الصارخة على الإزدواجية والتهافت وأشفعها بتساؤلات لا أنتظر جوابا عليها من الكاتب المسكين لأن ذلك قد يكلفه أكثر مما كلفه تبييض مقاله المتحامل (من 5 فبراير إلى 24 من نفس الشهر) والذي حاول عبثا تبريره بالتسلح بروح "تسامح" لا يشي بها أسلوبه الرافض للرأي الآخر والمرصع بثقافة الكراهية وأحادية الرؤية.
أيها الكاتب المبتدأ يطيب لي أن ألفت نظرك إلى بعض التناقضات الفاجعة التي وقعت فيها من دون علمك عساك تعتبر بها في لاحق تنفيذك لمهام أسيادك الذين فضلوا تمرير رد شبه رسمي من خلالك بعد أن لم يجدي ردهم الرسمي على البيان شيئا وأنت الذي لتوك أسندوا إليك مهمة إعلام منظمتهم الشبابية.
ألم يدر في خلدك أيها الصغير عندما استغربت ضيق صدر الحقوقيين بقولك: "و كنت أستغرب حينها من ضيق صدر من يفترض أنهم حراس حرية الرأي و التعبير ورفضهم لكل صوت انتقد بيانهم باحترام و عارضه بأدب" أنك وفي مستهل مقالك بادرت بالقول عن البيان: " لا أذكر أننى في الفترة الأخيرة تضايقت من شيء بقدر ما تضايقت منه، ذلك أنه كان بمثابة صدمة يبدو أننى لم أكن على استعداد لا ستعاب مثيلاتها، فلم يكن من السهل بالمرة أن أقرأ بيانا صيغ بلغة عربية و بأنامل موريتانية و كسي بطابع حقوقي، ثم أجد رائحة الميوعة والحقد و التآمر تزكم أنفي، وتمنعنى من المتابعة"؟
ألا يعتبر هذا تضايقا أم أنه يحق لك ولأخوتك ما لا يحق لغيركم خاصة إذا كان يمت بصلة ود لـ"ليسار الموريتاني"؟ ثم ألا يعبر هذا عن روح شوفينية مفتونة بالعروبة؟
أو لا ترى أيها الصغير أنك تؤكد ضيق أفقك ورفضك للرأي الآخر حين تقول عن البيان: "كان بمثابة صدمة يبدو أننى لم أكن على استعداد لا ستعاب مثيلاتها"؟!
ألا يعتبر هذا استخفافا لكي لا أقول "كفرا" ـ التي صدرت منك أنت ـ بأبسط مبادئ حقوق الانسان؟
ثم أولا يدل استخدامك لعبارة "كفر" على أنك محكوم بمنطق ثنائي متجاوز يصنف الآراء والناس على أساس كفر وإيمان وخير وشر وأصحاب جنة وأصحاب سعير؟!
هي طريق البداية هكذا دوما تكون متعثرة وغير سلسة، لكن إياك والدربة على إمساك الحبر من خلال التقول على قامة حقوقية بحجم الرفيقة آمنة بنت المختار.
وفي انتظار جوابك على ذلك فحري بك أن تسأل أسيادك أيها الصغير عن فكرة ألقموا لك بها مقالك ولكنها لا تزال تحتاج إلى توضيح، إذ ورد في المقال: "فتركوا العنان لألسنتهم و أقلامهم لمهاجمة فئة معينة كانت هي الأحرص على تفهم خطئهم ، و هي الأقدر على مد يد العون لهم"، فبلا شك تدل الفئة هنا على جماعتك السياسية، لكن هل يعتبر استهلال بيانهم فعلا حرصا على التفهم: "طالعنا في الآونة الأخيرة بيانا صادرا عن بعض المنظمات الحقوقية أوغل في الاستهزاء بمشاعر المسلمين في هذا البلد ومنظومتهم الأخلاقية"؟!
وإذا كان هذا هو عين التفهم من وجهة نظرك فما عسى أن يكون نقيضه؟
أرجوا أن لا يخطر ببالك التفكير في امتشاق السلاح، وليس الأمر مستبعدا لأن الصغار يغترون كثيرا بالأخلاقيات الفروسية ويستلهمون تصرفاتهم من حكايات الجدات وأقاصيص الكتب التراثية.
وإن أجابوك على ذلك فاسألهم توضيحا لما يعنونه بمد يد العون؟!
وليكن في علمك أن الحقوقية والرفيقة آمنة بنت المختار من طينة عصية على عمليات الإغراء والشراء.
أيضا قلت أيها الصغير في مقالك حول ما اعتبرت بأنه رفضا قوبل به البيان: "رفض المجتمع بسياسييه و مثقفيه و مواطنيه البسطاء ما سطرته هذه المنظمات في بيانها" فبالله عليك إذا كان لنا أن نعرف رأي السياسيين عن طريق بياناتهم وهم الذين لم يعلق منهم على البيان سوى حزبين، وأن نعرف رأي المثقفين عن طريق مقالاتهم، فمن أنبأك عن المواطنين البسطاء وعن المجتمع كل المجتمع حتى تطلق حكما من هذا القبيل؟!
أم أنك بمزاجك الخاص تنظم الاستفتاءات وتصدر الأحكام وتكيل التهم؟!
وإمعانا منك في هذه المصادرة تقول في موقع آخر "وحتى لا أعكر صفو القارئ الكريم الذي لم يفق بعد من صدمة البيان الحقوقي". عجبا لك حتى القارئ لا تستثنيه من ازدراءاتك المريبة التي توزعها بالمجان!
لكن ليهنأك أيها الصغير أن القراء الموريتانيين يقدرون بالآلاف في حين لم يفقد احدا منهم وعيه بسبب البيان إلا جماعة لا تكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة ازدادت بك أنت وإن كانت الحالة التي انتابتك منه جاءت متأخرة، وفق ما قلت أنت نفسك!
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هل الكلام تحت تأثير الصدمات كلام متوازن أم أنه مجرد تخريف؟
على العموم أرى أن هذا السؤال وارد جدا وسيطرحه بإلحاح كل من وقف على التناقضات الصارخة التي تحفل بها هذه المحاولة غير الموفقة.
لقد كان من الحري بك أيها الصغير أن تلتزم حدودك وأن تتسلح بروح المسؤولية لا أن تقبل بأن يزج بك في معركة أنت الخاسر الأول فيها لأنها قد تودي بك مثل ما أودت بآخرين قبلك حينما قبلوا ومن غير تردد تنفيذ مخططات يحملون وحدهم مسوؤوليتها حين المحاسبة.
لا يعني تنبيهي هذا لك أن تناقضاتك وتلاعبك بالقراء قد نفدت فهيهات لكن تتبعها والوقوف عليها سيعييني، ولذلك فسأختصر فقط على أمثلة كما وعدت منذ البداية، فأنت حين تقول: "لن أعلق على ذاك الهجوم الذي جاء في مقدمة الرسالة على من وصفتهم الحقوقية (المخضرمة) بالمتأسلمين السياسيين" تلفق على معيلات الأسر ما لم يقلنه لأنك أهملت السياق الذي وضحته الرسالة، وحتى يتضح ذلك أكثر للجميع أورد هنا نص الاستهلال الذي يبدو أنك لم تستوعبه، وأرجو من كل قلبي أن لا يكون ذلك ناتجا عن قصر نظر أو خلل في الفهم: "تتعرض منظمة النساء معيلات الأسر هذه الأيام ورئيستها بشكل خاص لحملة لم يسبق لها مثيل من التكفير والتفسيق والتخوين من طرف أولئك الذين تعودوا أن يجعلوا من الإسلام واجهة يرفعونها في وجه كل من يخالفهم في الرؤية ممن يريدون تشويه سمعتها زاعمين أنه يخالف تعاليم الإسلام وأنه كافر وشعارا يستخدمونه لتحقيق أغراضهم الشخصية ومآربهم الانتخابية التي لا صلة لها بتعاليم الإسلام السمحة، وذلك بحجة أن منظمتنا أصدرت مع مجموعة من المنظمات الحقوقية والوطنية بيانا يتعلق بالوضع الحالي في جمهورية مالي.".
كان هذا توضيحا من الرابطة لسياق رسالتها إلى الرأي العام حتى يكون كل القراء على بينة مما تريد التعليق عليه، وفعلا أنها أشفعته بالقول: " ولأن هؤلاء المتأسلمون سياسيا لا يسمعون إلا منطقهم ولا يفهمون إلا فكرهم فمن يوم اشتعال فتنتهم والعلماء يردون عليهم بالنصوص الشرعية وهم يجادلون بفكرهم وهم أساتذة الجدل وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : "ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل "أخرجه : الترمذي عن ابن أمامة" . ثم تلى قوله تعلى : ( ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون) (الزخرف : 58)." ولكنه يعتبر دفاعا عن حرمة وتوضيحا لتمثل عند الرابطة عن الإخوة وكان أحرى به أن يكون مساعدا لهم على تحديد من يكونون بدلا من أن يضعوه في سلة التحامل والتهجم وفق تصرف يؤكد ما ذهب إليه التصنيف المذكور والقاضي بأنهم لا يفهمون إلا فكرهم ولا يسمعون إلا منطقهم.
وللأمانة مع القارئ الكريم فإن بيان الحقوقيين المذكور والذي يتخذ الإخوة الرفيقة آمنة بنت المختار فداء له، ومن بينهم الصغير المسكين، انصب حديثه على الكلام عن الإحتلال السلفي للشمال المالي وما لحق بمدن أزواد جراءه من مسخ ثقافي أجبروا عليه تحت طائلة السلاح والترهيب، داقا ناقوس الخطر من انتقال تلك العدوى إلى بلدنا ونحن المعروف أننا كنا خزانا رئيسيا لتزويد الشمال المالي بالعناصر السلفية المقاتلة والمتعطشة إلى فرض رأيها بالسلاح.
البيان أيضا مثل للحضور السلفي باستيراد أنماط لبس وعينات سلوكية أصبح البعض يتمثلها، مشيرا إلى أن التراث الموريتاني حافل بما يدل على الهوية والخصوصية الموريتانية خاصة في أبعاده الفلكلورية. (التي تعتبر نتاجا خاصا لهذا الشعب وتعبيرا عنه، من الواجب تمثله والمحافظة عليه أمام عاديات الزمن وزحف العولمة والخطر السلفي).
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: ما دام البيان تمحور حول السلفية والسلفيين فلم يستفز من أهدروا جل وقتنا في محاولة إقناعنا بأنهم "وسطيون"؟ أم أن الأمر لا يعدو سوى تكتيك؟ وهل لنا أن نصدق من يذهبون إلى أن الفرق الإسلامية موحدة الهدف والسعي وأن افتراقها الظاهري ما هو إلا ذر للرماد في العيون وتقاسم للأدوار؟!