أمام تراكم الفساد و توغله في تفاصيل حياة الناس، و توطنه في كواليس الإدارة، يصبح أفق التغيير مظلما، و خيارات الإصلاح بعيدة المرام.
بل إن كل مظاهر الإصلاح تبقى
شعارات تغطي تراكمات الفساد و تموه على مروره دون أن يشعر أحد.
و لعلنا حين نتأمل في أفق الإصلاح، و نستحضر التاريخ و نستنطق التجارب ، نجد ان التغيير الإصلاحي لا يتأتى إلا بصورتين.
إصلاح آت من القاعدة العريضة التي هي ضحية لفساد المفسدين و التي ظلت تئن تحت وطأة الظلم و الخنوع و الخضوع و الإذلال و الإستبداد.
و التي هي الحلقة الضعيفة التي لا حول لها و لا قوة، و لا تملك درهما و لا دينارا ، فهي في غالبيتها طبقة من الفقراء بالاضافة الى بعض من أبناء الطبقة الوسطى الذين لم تستقطبهم مغريات النافذين المتسلطين و لم تتلطخ أياديهم بمسروقات المال العام.
هذه القاعدة العريضة من الشعب، التي هي محور التنمية و مناط الإصلاح و هي المعبر الأول عن سلامة الحركة التنموية لأي بلاد، ما تزال تتحمل ضغوط الواقع المرير و تعبر بين الفينة و الأخرى عن مدى الألم و المعانات التي تعيشها في يومياتها اتراجيدية، حتى تبلغ مرحلة من البؤس و الإحباط تجعلها تنفجر فجأة و تخرج عن بكرة ابيها لتعبر بطريقة غير إعتيادية و لا إرادية عن غضبها و رفضها لما هي فيه من حال خطير.
فتثور متجاوزة الأعراف و القوانين، و تشكل حالة من اللامبالات بالنظم و الضوابط، تجعل حالة التغيير تفرض نفسها و تأتي رغم انف المستبدين.
لكن هذه الحالة الثورية ليست آمنة و ليست بالضرورة تؤول للتغيير الإصلاحي المنشود، و إحتمالية الإلتفاف عليها و تغيير بوصلة مسارها، إحتمالية كبيرة.
ثم إن الخسائر فيها ليست قابلة للتخمين، فقد تعصف بالتوازن و السكينة العامة، و ذلك لعمري مآل لا تحمد عقباه.
و ماهي في تلك الحالة إلا كما وصف زهير المنايا قائلا
رَأَيْتُ الْمَنايا خَبطَ عشواءَ من تُصب
تُمِتْهُ وَمَنْ تُخطئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
و الأمثلة عليها كثيرة و ما مآلات "الربيع العربي" عنا ببعيد.
و مما يُعقد الخيار الثوري، و يزيده خطورة، المطامع الخارجية و مكايد الاعداء، فالحالة الثورية تفتح الأبواب في كل الاتجاهات و يسهل معها تمرير اجندات خارجية عدائية للبلد..
أما الحالة الثانية للإصلاح فهي الاصلاح الآتي من القمة و غالبا ما يكون بصلاح ولي الأمر نفسه.
و هي أكثر أمانا و إن كانت بطيئة بعض الشيئ ، و في هذه الحالة تتجه البوصلة إلى القائد المصلح الذي يلزمه جمع العديد من الصفات الاصلاحية التي لا تتوفر الا فيه، و من اهمها القوة و الأمانة و في كتاب الله:
*إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين*
مع صفات السؤدد من حكمة و فطنة و كرم و رشاد و صدق و مروءة و عطف و صرامة، و غلظة في الحق و حزم و حلم و عزم.....
فالقائد في هذه الحالة هو الموجه الأول لمآلات الأمور بعد توفيق الله و فضله، فبصدقه و إصراره و قوته في الحق تنكسر قيود الباطل و تحيى النفوس و تسود القيم الفاضلة و يبدأ الضمير الوطني الصادق يأخذ مكانه في المنظومة التنموية للبلاد.
و لا شك أن أمام مسار هذا القائد من البطانة الفاسدة و حاشية السوء التي كانت اول مستفيد من الفساد، و رموز الباطل و أعوانهم، أمامه الكثير من اولئك الحاقدين الذين يحز في نفوسهم مسار الاصلاح و يرونه ضربة قاضية لمشاريعهم التخريبية التي يتغذون عليها.
و لكن رجاحة عقل القائد و بعد نظره و سلامة مبدئه و نور إيمانه، كفيلة بجعلهم يتساقطون الواحد تلو الآخر و يذبلون كما يذبل الورق برياح الصيف العاتية.
و سرعان ما بدأ أصحاب النوايا الطيبة و الهمم العالية ينتصرون لقائد الاصلاح و يظهرون ولاءهم و دعمهم له، بعد أن كانوا لا يستطيعون حيلة و لا كلاما في عهد الفساد و الاستبداد، حتى تتشكل حول القائد المصلح هالة من المصلحين تكون له عونا و سندا في مسيرته الميمونة.
و هذه الحالة الاخيرة قابلة للتشكل في أحلك الظروف و في أظلم فترات الامم التي تمر بها، و قد يكون هذا المصلح المؤمل هو ابن ذلك المفسد المستبد أو أحد قادته المقربين و التاريخ مليئ بالامثلة.
إن صراع الحق و الباطل هو صراع ابدي ازلي يمحص فيه الصالحون و يبتلى فيه المؤمنون و يستدرج الله فيه الظالمين حتى يأخذهم، فيهلكهم و يريح منهم البلاد و العباد.
و سيظل في البشرية دعاة اصلاح يناضلون حتى الموت او النصر، كلما مضى فيلق منهم ظهر آخر، لا يخافون في الله لومة لائم، يجعلهم الله فرجا لعباده و سببا لرفع الظلم و الأخذ على يد الظالمين.
و لولا اولئك المصلحون الساعون للتغيير بكلامهم و افعالهم و اموالهم، لنزل العذاب و عم العقاب قال تعالى:
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ
فليستبشر المتعطشون للتغيير الحالمون بأمر رشد يعم فيه العدل و تنهض فيه البلاد و يرفع فيه الظلم و يرحم فيه الضعيف و ينتشر السلم و السلام و الأمان.
فإن الله يمهل و لا بهمل و سيأخذ على يد الظالم و لو بعد حين.
قال تعالى :
وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين