في مقالين للكاتب محمد الأمين ولد فاضل عن المجتمع، الأول تحت العنوان: " تمازج الأفراح بالأحزان"، والثاني" عن تناقضات المجتمع"، ما يعجب القارئ، ومن ذلك اقناعه لجمهور القراء بكتابته، كناشط سياسي يستحضر وعيه الوطني الذي لا يشك أحد فيه، غير انه ربما يستحضر طريقة " ارسطوطاليس" في فن المسرح بتجنبه عرض المشاهد المؤلمة، ذلك أن هذا الفيلسوف، والمؤسس الاول للمسرح الكلاسيكي بتقديم المسرحيات عن طريق المرشد الحاكي، لكن هل يرضى صاحبنا بأن يكون بمثابة المرشد المتحدث عن الظواهر الاجتماعية، والأحداث اليومية، وذلك تعويضا عن الاشارة الى ضرورة البحث عن المسببات للحد من الظواهر، وتأثيرها على العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن، عكس الاستغراق في تقديم المشاهد المؤلمة،، والسؤال الذي يتبادر الى الأذهان طرحه، هو: أيهما اكثر توصيلا لأداء "المدون" الاعلامي، المشاهد، أو نقلها باسلوب يراعي آليات التقديم التي، قد تقتصر احيانا على النصح، و الوعظ، والتوجيه باستحياء للنظام السياسي الذي يتطلب التفاعل معه ايجابيا التركيز على لغة الناصح، بدلا من الدفاع عن الحقوق العامة المدنية والسياسية،،؟
وفيم يختلف "المدون" العلامي عن " المدون" الاخباري في التأريخ للحوادث اليومية؟
ف" الجبرتي" (1754 / 1825م)، قدم في كتاباته الحوادث اليومية في الحياة الاجتماعية لحظة حدوثها، وركز على تلك التي بدرت من السلطات السياسية سواء على عهدي الاحتلال الفرنسي لمصر في العام(1798م)، أم التركي (1801م)، وكان وطنيا، وأمينا معا في نقله للاخبار، حيث عرض للسياسة الفرنسية، وتقرب" نابليون" من علماء الدين، و زياراته المتكررة للازهر الشريف، وغيره من الجوامع الكبيرة والصغيرة في المدن، حتى اعتقد المجتمع العربي المصري، أن هذا المجرم الاستعماري في قلبه شيء من المعتقد الإيماني، وبالتالي طلعت الدعاية له على أساس أنه مسلم, وأنه قدم بعلمائه لاكتشاف الحضارة المصرية، وبالتالي العمل على نهضة مصر المجتمع، قبل استبعاث مصر الأثرية،، ولكن لما استتب الأمر للاحتلال، واطمأن على وجوده غير الشرعي، بدأ بتطبيق سياسته القائمة على النهب، والاذلال، والاخضاع، حينها رفع " المدون" الجبرتي عقيرته، وتجاسر على تقديم سياسة المحتل، وتناقضها مع أول عهدها، بما صارت عليه ضد المصريين.
وكذلك كان قلم " الجبرتي" مع الاتراك، وسياسة محمد على باشا، لأن هزيمة الأتراك في الغرب في بداية القرن التاسع عشر( 1809م)، انعكست على سلوكهم الاجرامي، ببشاعة استنزاف الخيرات في مصر، والشام، وفلسطين، والعراق، شبه الجزيرة العربية،واقطار المغرب العربي الثلاثة: ليبيا، وتونس، والجزائر،، فقد عانت مجتمعاتنا العربية من سياسة النهب التركي ـ كما اخبر الجبرتي ـ وذلك بارسال الجنود الاتراك في المدن والقرى، وتغريم المصريين على ممتلكاتهم العينية في التجارة، والزراعة، والمواشي، فصاروا يتنصتون سماع نهيق حمار، لاستلابه انتزاعا بالقوة من صاحبه، إلا اذا افتداه بالثمن الذي يقدره أفراد القوة التركية الاحتلالية،،
ذاع صيت الجبرتي بكتاباته الجريئة المناهضة لسياسة محمد علي باشا، وهذا يوضح الى أي حد، كان " المدون" التأريخي، واعيا لضرورة مواجهة المسببات، بدلا من الاستغراق في عرض المظاهر" التراجيدية"، على عكس " المدون" الإعلامي الوطني، بما يعبر عن النأي بالنفس عن تحمل المسؤولية التي يترتب عليها ـ في الدفاع عن حقوق المواطنين ـ من تحميل القائم على الأمر كامل المسؤولية عما يجري.
ولا يقتصر دور الكاتب الوطني على تقديم النشرات الاخبارية الموازية للأخبار في وسائل الاعلام الرسمية، بل الاحرى به مأسسة الوعي العام على البحث عن عوامل التغيير الاجتماعي، والتوعية عليها، كأن يسأل عن أهمية القيم الأخلاقية في أحاديتها، والتجانس في الوحدة الاجتماعية في مجتمع الكاتب سواء منه ساكنة المدن، وساكنة القرى، والبوادي، وماذا يمكن أن يؤدي اليه هذا التجانس من تعطيل للنهضة الحديثة القائمة على التباين في القيم، وفي انماط الحياة المعيشية بحكم التباين في مردود العمل من مداخيل يومية للعاملين وشهرية للموظفين، والتساؤل عن الريع العائد من مصادر الثروة الوطنية، كذلك دور التطور الحضري في تنميط الحياة على القيم التحديثية، واشكال الاحتكاك الحضاري مع المستعمر منذ أواخر القرن التاسع عشر، ونتائجه الايجابية والسلبية، وايهما الغلابة على الأخرى؟
وبالحديث عن المحتل الفرنسي، وشعاره المتمثل في " الاستعمار"، فهل هناك ما يبرر الارتباط به في مجال التحديث، والتعمير، والتحضر، أو العكس، كما يرى معظم الوطنيين، أن المحتل جاء لغاية في نفسه، وهي النهب، ثم النهب، ولا شيء يعوضنا به عن ذلك طيلة أكثر من قرن، لأن شهية فرنسا ـ وقبلها البرتغال، وحاضرا امريكا، واسبانيا، والمانيا، والغرب عموما ـ ستبقى مفتوحة على استنزاف خيراتنا في كل زمان، وبالتالي تأتي الضرورة لقطع العلاقات معه انطلاقا من نتائج الاحتكاك به، أو على الاقل تعديلها بما يحقق المصلحة الوطنية للمجتمع الموريتاني، وليقل الجميع للانظمة الوطنية كفى من تقديم الثروات المجانية للمحتل الفرنسي على حساب الوطن والمواطن.
ثم ما هي عوامل التحديث، والتغيير الاجتماعي والثقافي التي تؤدي حتما الى النهضة ولو بعد مائة عام، باعتبارها فترة قصوى للتغيير البطيء الذي يعتمد على " نماذج" في تاريخنا العربي ـ كالدولة الأموية، أسست للنهضة العربية خلال مائة سنة، والدولة المرابطية أسست للنهضة في بلادنا وكذلك منطقة المغرب العربي، خلال مائة سنة ـ وكذلك الحال في تاريخ الامم شواهد تشير الى الرقم المائة وقدرته على اخراج النهضة من الكمون الى حيز الواقع المتطور، حيث اعتمد الإنجليز على التغيير الأفقي البطيء خلال مائة سنة، خلافا لفرنسا، وايطاليا، وغيرهما، حيث كان التطور قائما على المتغيرات الحديثة من نتائج الثورات السياسية، والاجتماعية..
بينما نحن اخترنا لانفسنا أخيرا ـ بعد أن اختير لنا بالانابة عنا ـ التغيير المعتمد على نتائج استرادنا للمؤسسات السياسية، والتشريعية من المجتمعات المعاصرة، لكن هل التعددية السياسية، وتفريخها للطبقة الوسطى من أجل تمكينها من أداء وظيفتها المأملة، كما في المجتمعات المعاصرة، وهي الدفاع عن الحقوق المدنية، والسياسية للمواطنين، وتنازل الحكومات عنها في البرلمانات الموقرة لممثلي الشعب؟
ومن الاسئلة الأولية، هل هناك مؤشرات دالة على قدرة الأحزاب على القيام بالدورالغائب في تنشئة الطبقة المتوسطة التي يراد استلادها من الأحزاب القبلية، والجهوية، والعرقية الخاضعة لمصالح الرموز التي تدافع عن التصدعات، والشروخ في جدار البناء الاجتماعي القبلي، والفئوي،والإثني، وبالتالي الشك في قدرتها على اخراج مولودها النهضوي حيا؟