يسعدني بمناسبة تزمين زيارة بعثة الاعتماد الدولي للسلك الهندسي التي تمت جدولتها في نهاية يونيو القادم أن أعود إلى بعض محطات هذا المسار الطموح وأناقش بعض الخيارات الوطنية المهمة التي ستكون حاسمة في المرحلة القادمة، فقد أسعدني الإشراف على الإدارة الأكاديمية للمدرسة العليا متعددة التقنيات خلال السنوات الأربع الماضية التي كانت فترة مضيئة من العمل الدؤوب الذي رفع منزلة السلك الهندسي الموريتاني إلى مصاف أجود مدارس المهندسين، رغم فتوة التجربة وشح الموارد. وقد شهد السلك الهندسي ولا يزال يشهد تطورا كبيرا، حيث نحرص على تحسين جودة التكوين سنويا، مع كل دفعة جديدة من الطلبة المهندسين. وبلادنا في حاجة ماسة إلى نجاح هذا المشروع الحيوي للرفع من كفاءة المصادر البشرية الوطنية وتلبية احتياجات الاقتصاد الوطني وتعزيز جاذبية المهندسين الموريتانيين ومكانتهم عند المؤسسات الوطنية والشركات الدولية العاملة في البلد.
ولعل من المفيد أن نضرب مثلا بدولة صناعية ودولة إقليمية لتقريب الصورة، حيث تُخرج فرنسا 35 ألف مهندس سنويا في 205 مدارس مهندسين في دولة يبلغ تعداد مواطنيها حوالي 66 مليون نسمة، وهو ما يعني أن فرنسا تُخرج سنويا مهندسا واحدا لكل ألفي شخص تقريبا. وقد عمل المغرب في السنوات الأخيرة على الوصول إلى نصف هذا الأداء ونجح في تخريج 10 آلاف مهندس سنويا من 44 مدرسة مهندسين في تعداد سكاني يبلغ حوالي 40 مليون نسمة، وهو ما يعني أن المغرب يّخرج سنويا مهندسا واحدا لكل لكل أربعة آلاف شخص تقريبا. فعلينا أن نُخرج ألف مهندس سنويا إذا أردنا أن نصل نسبيا إلى نفس المستوى من الأداء وكفاءة المصادر البشرية والجاذبية الصناعية القادرة على توطين الإنتاج والخدمات في إطار بناء اقتصاد مبني على المعرفة والكفاءة.
والحقيقة أن البلاد قطعت مراحل مهمة في تطوير أسلاكها الهندسية ورفعت طموحها إلى أعلى مداه حين دخلت في مسار اعتماد دولي ونجحت في مرحلته الأولى في نوفمبر 2019، ولكن الأسلاك الهندسية الموريتانية لم تصل بعد، رغم تطورها النوعي المطرد، إلى تخريج مائة مهندس سنويا، أي عُشر أداء المغرب نسبيا. و كان من الضروري أن يتم تطوير تكوين شديد التميز في ليصانص مهنية تكون رديفا للسلك الهندسي فتتولى تكوين الأطر الوسطى في المجال الهندسي. وكان من دواعي سروري أنني أشرفت على تصميم وإطلاق المعهد العالي للإحصاء في خريف 2019 والمعهد العالي للطاقة في خريف 2020 والمعهد العالي للرقمنة في خريف 2021. ومن توفيق الله أن هذه المعاهد شديدة التميز اليوم نظرا لتبنيها لمقاربة السلك الهندسي في دورة وأنظمة جودة التدريس، وستخرّج ابتداء من هذا الصيف بإذن الله تعالى دفعات من الفنيين العالين الذين لا مثيل لكفاءتهم لهم اليوم في البلد.
ولكن الأطر الوسطى والفنيين العالين لايغنون عن تكوين الأطر العليا والمهندسين، ولا بديل للبلاد عن الاستمرار في تطوير السلك الهندسي كمّا ونوعا، وأحسن وأقصر سبيل إلى ذلك هو مواصلة العمل على الحصول على الاعتماد الدولي الذي سيتيح فرصا كبيرة من الشراكة مع مدارس المهندسين المرموقة في الخارج، وسيفتح أبوابا واسعة من التمويل الدولي في مجال التكوين. وكانت بلادنا قد نظمت في دجمبر 2019 مؤتمرا حضرته كبرى مدارس المهندسين الفرنسية والمغربية والتونسية، وخلص إلى ضرورة إجراء تعديل على أنظمة وحكامة السلك الهندسي لمواءمتها مع معايير الاعتماد الدولي. وسيكون الحصول على هذا الاعتماد، الذي نصت عليه السياسة العامة للحكومة، تتويجا مهما لجهود مضنية يبذلها منذ عدة سنوات فريق من الأساتذة المخلصين، خدمة للمصلحة العليا للبلاد.
ونظرا لهذه الآفاق الواعدة فإنه من الضروري أن يتم تسريع اعتماد النصوص المنظمة للسلك الهندسي بما يضمن احترام الآجال المحددة من طرف الاعتماد الدولي في نهاية شهر يونيو القادم، حيث أن فوات هذه الآجال قد يعيدنا عدة سنوات إلى الوراء، فضلا عن تداعياته السلبية على مصلحة الطلبة المهندسين وحماس الأساتذة. وأحسن مقاربة في الظروف الحالية هي توزيع السلك الهندسي إلى مدرستين للمهندسين، إحداهما عسكرية والأخرى مدنية، لتتمكن هذه الأخيرة من الانسجام مع القانون 2010-043 المنظم للتعليم العالي وتحقيق متطلبات المعايير العالمية المتعلقة بجودة التكوين في مدارس المهندسين. وأهم خطوة في هذه المقاربة هي اعتماد مرسوم إنشاء المدرسة المدنية الجديدة لتتمكن إداريا من مواصلة مسار الاعتماد الدولي. ومن الجدير بالذكر أن المدرسة الجديدة ستكون أقل تكلفة حيث لن تحتاج إلا إلى ربع ميزانية المدرسة الحالية، أو أقل من ذلك، نظرا لتركيزها على الأبعاد الأكاديمية فقط دون التأطير العسكري.
ويصر بعض المتربّصين، هداهم الله، على الوقيعة بين الأساتذة ووزارة الدفاع الوطني، فيحمّلون طموح الأساتذة وتطلّع الطلاب إلى الاعتماد الدولي ما لا يحتمل. والحقيقة أن وزارة الدفاع الوطني كان لها دور رائد في احتضان السلك الهندسي حتى شب عن الطوق، لكن هذا النموذج الذي كان مفيدا في البداية لم يعد يتّسع للتطور الهائل الذي تسارع في الفترة الأخيرة والطموح الكبير الذي يلوح في الأفق الآن. والمصلحة الوطنية تقتضي أن يتحمل قطاع التعليم العالي اليوم مسؤوليته الكاملة في تكوين المهندسين المدنيين وتتولى وزارة الدفاع الوطني تكوين المهندسين العسكريين، كما هو الحال في المدرسة العليا للضباط التابعة للأكاديمية البحرية، فليس من رسالة أي قطاع غير التعليم العالي أن يُكوّن المهندسين للمؤسسات المدنية والقطاع الخاص، ولا ينبغي لغيره أن يفرض على الأساتذة والطلاب خيارا لا ينسجم مع تطلعاتهم إلى الاعتماد الدولي والمعايير العالمية المتعلقة بالجودة.
إن وجود مدرستين عسكريتين للمهندسين اليوم ، المدرسة العليا متعددة التقنيات والمدرسة العليا للضباط، وعدم وجود أي مدرسة مدنية للمهندسين، تتماشى مع القانون 2010-043 المنظم لمؤسسات التعليم العالي، وتستطيع الحصول على الاعتمادي الدولي، وضع غير طبيعي، يعيق مسيرة التطور الذي تسارع منذ رفع الطموح في خريف 2019. ولا يوجد، على سبيل المقارنة، حضور عسكري إلا في مدرسة واحدة من أصل 205 مدارس مهندسين في فرنسا، ولا يوجد حضور عسكري إلا في مدرسة واحدة من أصل 44 مدرسة مهندسين في المغرب. ومن الممكن تحقيق الانضباط وتنظيم الرياضة البدنية بأنظمة أكثر تناسبا مع مدارس المهندسين، تحافظ على شخصية قوية قادرة على الريادة والمبادرة. فالانضباط المنشود في المدارس المدنية لا يتطلب القضاء على الأنشطة الجمعوية في الحياة الطلابية ولا حرمان الطلاب من حق الاحتجاج مادام مبررا ومنضبطا بالأنظمة، وهو المتوقع في المؤسسات المتميزة مثل مدارس المهندسين التي لا يلجها إلا المتفوقون المثابرون.
والحقيقة أن قرب زيارة الاعتماد الدولي يقتضي سرعة اعتماد النصوص المنظمة التي اكتمل إعدادها ولم يبق إلا جدولتها حتى لا تفوت الفرصة على البلاد وتتراجع جودة التكوين الهندسي بعد وصوله إلى مكانة مرموقة اليوم. كما أن تداعيات هذا الفشل قد تكون أخطر على السلك الهندسي إذا فقد الأساتذة الأمل في التطوير وانفضوا عن المشروع بعد أن أوشكوا على إنجاحه. وتجدر الإشارة إلى أن تلك التداعيات ستشمل السلك التحضيري أيضا، حيث سيتأثر تنظيم المسابقات الدولية المرموقة إذا تنكّرت البلاد لمسيرة التميز التي جذبت تلك المسابقات، بينما سيمكّن الاعتماد الدولي، في المقابل، من تقوية الروابط بأرقى مدارس المهندسين في العالم والانخراط معها في شراكات يحتاجها البلد الآن من أجل الرفع من كفاءة الطواقم التربوية وتعميق تكوين الطلبة المهندسين. ولدى السلك الهندسي الآن مشروعان في هذا المجال معرّضان للضياع، أولهما من أكبر تجمع للمدارس المهندسين الفرنسية الذي يتشكل من 15 مدرسة متعددة التقنيات تتقدمها بوليتكنيك الباريزية والعرض الآخر من ثاني أهم تجمع للمدراس المهندسين الفرنسية الذي تقوده إنسا ليون.
وسيكون هذا الإصلاح أعمق إذا تم إنشاء معهد تحضيري مدني للمسابقات، يزوّد مدرسة المهندسين المدنية بالطلاب ويتولى تحضير الطلاب أيضا للمدرسة العليا للتجارة المذكورة في برنامج رئيس المجمهورية ويقوم بإعداد خريجي كلية العلوم المتفوقين لمسابقات التبريز التي لا يتم التحضير لها اليوم في البلاد.
وأحب التأكيد على أن الأساتذة الخبراء، الذين عادون إلى البلد من الشتات بنيّة صادقة في الإسهام في تنميته وتجمعوا في السلك الهندسي لتطويره وتجويده، لا يكنّون للجيش الوطني إلا عميق الاحترام وعظيم التقدير، ولكن المصلحة العليا للبلد في مجال التعليم والتكوين تقتضي منهم إبداء الرأي بكل صراحة وتجرد فيما يتعلق بصميم تخصصهم، رغم ما يترتب على ذلك من مداخل النميمة التي يمتهنها المصطادون في المياه العكرة لتشويه صورة الأساتذة والتقوّل على سيرتهم واتهام سريرتهم.
وفي الختام فإن التعليم هو البوابة التي يمكن أن تلج منها البلاد إلى آفاق التنمية والاستقرار والازدهار، فليس من الحكمة تضييع الفرص التي تتاح فيه أحيانا، ولا ينبغي فيه وأد تجربة واعدة، أثبتت مصداقيتها وتميّزها.
محمد عالي لولي، مدير الشؤون الأكاديمية بالمدرسة العليا متعددة التقنيات.
[email protected]
42200404