أثارت استغرابي الوثيقة المنسوبة لوزارة الداخلية المتعلقة بالخارطة السياسية في البلاد، الصادرة في شهر مارس 2022 والتي تم تداولها على نطاق واسع خلال الأيام الماضية، هممت في البداية بالكتابة عنها، لكن تصريح الناطق باسم الحكومة الموريتانية، الذي نفى فيه نسبتها إلى الداخلية، جعني أتراجع عن الخوض في الموضوع، مع أني أرجح عقلا نسبة التقرير إلى الداخلية، وأعتقد أن تصريح النفي لا يعدو كونه نوع من التدارك والتراجع لما بدى جليا لأصحاب التقرير أن نتائجه ستكون كارثية على المستويين السياسي والاجتماعي.
لكن بعد الاطلاع على رسالة وزير الداخلية السابق إلى الولاة الآمرة برسم الخارطة السياسية للبلاد، عدلت عن الإحجام في وقت يتطلب الإقدام، وقررت أن أسجل بعض الملاحظات على هذه الوثيقة التي أصبحت نسبتها إلى الداخلية شبه مؤكدة بالنسبة لي:
1ــ بعد الإدارة الإقليمية عن المواطن وعجزها عن تحقيق تعهدات الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني:
بدى واضحا من خلال التقرير أن الإدارة الإقليمية في كثير من الأماكن لا تعرف أو لا تريد أن تعرف من هو في صالح الدولة والمواطن بالخدمة دون منة، ومن هو ضد الدولة والمواطن بالإعراض عن تقديم ما ينفع الناس ويمكث في الأرض والإقبال على تحقيق المصالح الضيقة على حساب المواطن المطحون، حيث تجاهلت في أحايين كثيرة مجتمعات وازنة وقوي حية في المجتمع لها مكانتها الاجتماعية، ولها دورها الإيجابي في خدمة الناس، ورفعت أقواما معروفين باحتقار المواطن واستغلاله لأغراض شخصية، ومخادعة الأنظمة واستغلال النفوذ لإظهار شعبية مزيفة.
ولعل خطاب الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني 24 مارس كان تعبيرا عن إحساسه العميق بهذه الحقيقة المرة "من بعد للإدارة عن المواطن، والحاجة الملحة لاتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بامتلاك مرفق عمومي يتصف بالحياد والشفافية" رغم أن الرئيس لم يتخذ بعد من الإجراءات ما يمكن من الوصول إلى هذا الهدف الذي نصبو إليه جميعا.
2ــ نسبة التقرير إلى الداخلية:
أعتقد شخصيا أن إعداد هذا التقرير لا يتأتى إلا من وزارة الداخلية، نظرا لبعض الاعتبارات، منها أن البعد الوطني للتقرير يجعل من الصعوبة بمكان أن تستطيع جهة غير الداخلية إعداده، لأن جمع هذا الكم الهائل من المعلومات يتطلب إمكانات بشرية ولوجستية وفنية لا تمتلكها جهة معلومة القدرة والعداء للحكومة والمواطن، وحتى لو افترضنا وجودها لا يمكنها القيام بهذا العمل الوطني الشامل دون علم وموافقة الداخلية.
3ــ الشكل والمضمون:
لا يوحي التقرير بالمهنية، فقد جاء دون تقديم ولا تمهيد أو تأطير، كما أنه يفتقر إلى خلاصات أو خاتمة لما توصل إليه من نتائج، كما جرت العادة في مثل هذا النوع من التقارير، هذا فضلا عن كونه يتسم من حيث الشكل بضعف الأسلوب واللغة وعدم تناسق الأفكار، مما قد يعطي انطباعا عن عدم جديته، الشيء الذي يجعلنا نشك في إمكانية صدوره عن وزارة الداخلية، أما فيما يخص المضمون فهو خطير للغاية، لما يترتب عليه من تهديد للسلم الأهلي وتفكيك اللحمة الاجتماعية جراء إثارة الفتن والنعرات، ناهيك عن نتائجه السياسية السلبية نظرا لما سيخلقه من غضب وتذمر في أوساط المغيبين، سيما وأحرى من يتمتعون بثقل اجماعي وسياسي، والذين يرون أن هذه الخريطة بعيدة كل البعد عن الواقع، ولا تقدم مبررات واضحة للترتيب المزعوم لأوزان وأحجام الفاعلين السياسيين المذكورين.
4ــ مصداقية التقرير
بغض النظر عن الجهة التي أعدت التقرير لا أعتقد أنه سيحظى بالمصداقية التي ترجى أو تخشى، سواء على المستوى الشعبي أو الرسمي، لأن الشعوب أدرى وأقدر على تمييز الغث من السمين من أبنائها، والسلطات العليا لن تعدم طريقة لقراءة الساحة السياسية بشكل صحيح، نظرا لتعدد مصادرها، وقدرة مختلف أجهزتها على استقراء الوقائع والأحداث السياسية، وعلى استنطاق وتحليل نتائج آخر عمليات انتساب وانتخاب، رغم ما شاب العمليتين من عدم شفافية.
5ــ الطابع الاستعجالي
نصت رسالة وزير الداخلية السابق إلى الولاة على ضرورة رسم الخارطة السياسية في البلاد في مدة لا تتجاوز سبعة أيام، مما قد يعطي تفسيرا جزئيا لما يعانيه التقرير من نواقص في الشكل والمضمون، بيد أن باعث طابع الاستعجال هذا ليس له من تفسير، سوى التحضير للتشاور الوطني، وما سيترتب عليه من نتائج.