في مشهد سينمائي نادر ( من فيلم حين ميسرة) يظهر الممثل المصري عمرو عبد الجليل جالسا يصطاد على " الترعة" ويحدث صديقه عن قصة خروجه هو وقريبهما رضا أثناء حظر مشدد للتجول في القاهرة.
خرجا وطافا شوارع المدينة وتسللا بين الدبابات والعسكر دون أن يعترضهما أحد .
بعد ساعات سأل رضا قريبه ( عمرو) عن ما إذا كانا مرئيين، ليردف السؤال بإجابة ساخرة " شكلنا دخلنا الدنيا وهنطلع منها واحنا مش باينين ".
وفي نهاية المشهد يحمد ( عمرو) الله على أنه لم ينجب، مبررا ذلك بأنه لا يستطيع أن يتصور إنجاب أطفال يدخلون الدنيا ويخرجون منها وهم " مش باينين".
تطرقت قبل أيام لتعليق صديقي السائر وحده بطريقته وطريقه إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا، حين سئل عن اللاعب كريستيانو رونالدو.
فأجاب بأنه ليس من أهل " بلوه" وليس أفضل من يقيم اللاعبين فنيا لكن ذلك اللاعب يسجل الكثير من الأهداف وهذا بالقطع يدل على أنه لاعب جيد.
ينتمي هذا التعليق لطريقة إسماعيل الذي يحاول التركيز على مجاله على غير عادة أهل هذه البلاد.
لكنه بالرغم من ذلك قد أجاب إجابة وافية وكافية لسؤال غير الذي طرح عليه.
لقد تحدث عن العلاقة بين البعرة وصاحب البعير.
تحدث الشعراء كثيرا عن العرصات في المدر، واهتدوا بها لخارطة الفيافي غير العامرة إلا بالذكريات.
بإمكان أحدنا أن يتخيل شخوص اجداده في مواطنهم المتوارثة وأن يقرأ عنهم في المكاتيب ويسمع من المرويات أمجادهم وفضائلهم.
لكننا حين نلقي نظرة من خارج اسوار الثقافة سنتمكن مقهورين من تقييم تاريخنا المادي والحضاري بعيدا كل تلك الأمجاد.
هنا قبر المرحوم قطب زمانه وسيد اقرانه، جامع الفضل وفيصل الفصل، فلان ابن فلان الفلاني.
دائرة بيضاوية من الأحجار نمت على حافاتها حشائش إثر أخرى وهذبت سنامها عاديات الريح والمطر.
كانت له نوق وبقرات وشياه، ومن الوارد أنه مر في حياته على ذات البقعة مرات عديدة وهو ينشد شعرا ويفكر في وجهات وفصول مختلفة.
مر من هنا وهو شاب يافع تراوده منون الغرام متغنيا بالغيد والجيد والكاعب الناعسة.
ثم بعد ذلك مر بذات المكان حاملا ذات الفتاة التي أهلكت قلبه وهي تتربع بكامل ثقلها على حمارة تارة واخرى على بعير.
وحول المكان كبر أولاده وتتلمذوا وقصوا خطى والدهم شبرا بشبر وذراعا بذراع.
حفظوا عنه ذات المحفوظات وأضافوا بعض العروضيات لأرشيف الذاكرة الجمعية.
رحل الجد والوالد والحفيد وجد الجد وحفيد الحفيد ولم يبق في المكان غير شواهد قبورهم وعرصات نوقهم في المدر.
لايزال المكان خاليا إلا من الذكريات والمرويات والأمجاد المعنوية ( شجاعة في معركة على بئر، قتال بسبب بقرة دخلت حرثا.. او فتوة ليلة سجال على واو عمر أو نون توكيد).
في إحدى تلك العرصات، تعمّر بعرة البعير أكثر من صاحب البعير.
وتبعث المتأمل على استدراج وجدان اللحظة التاريخية تماما كما يفعل قبر الجد العاشر ( صاحب البعير الذي ترك البعرة).
كلاهما رحل دون اثر مادي غير الذي لا يجدي نفعا ( البعرة وحجارة الضريح).
أقول قولي هذا وأنا اثمن القيمة المعنوية للتاريخ، وادرك ريادة أجدادنا في حماية الإرث الثقافي الجامع والناظم لقيمنا كمجتمع.
لكنني ألف الانتباه لقيمة المعايير حين لا تصمم دوريا وفق غايات حضارية.
ففي امريكا مثلا، هناك قيمة للفرد تتحدد بمدى نجاحه ( الحلم الأمريكى) لا باسم عائلته ولا كم الشهادات التي يحملها.
الأستاذ الجامعي الذي لا إنتاج له
السياسي الذي لا معالم لوجهته ولا وجهه.
الضابط الذي لم يحارب
الصحفي الذي لم يتتبع يوما خبايا قضية.
العلامة الذي لم يؤلف كتابا ولا وضع بحثا عن قضية مستجدة.
المثقف الوعاء، الذي سخر جمجتمه للقط الساقط وقلمه لإسقاط الملقوط دون لمسة تجديد ولا تسديد ولا ترشيد.
... والقائمة طويلة للغاية.
يمر كل هؤلاء ضمن معايير ميعت كل شيء ومنحت الألقاب الكبرى للصغار واذابت حدود التفاضل في حارقة التمجيد والاعتياد.
نقيب البتاعيين
عميد... البتوعيين
القامة
العلامة
المفكر
الفيلسوف
المثقف الكبير
الكاتب العظيم
الظاهرة
المناضل
.. الخ
كل ذلك في حيز جغرافي وسياسي غير عامر بأثر مادي للحضارة ولا مهر العالم بنظرية علمية ولا اختراع تقني ولا مدرسة أدبية ولا حتى اضاف لونا باهتا على فلسفة سياسية أو اخرى ثقافية.
ومع ذلك تتوزع الألقاب على كل افراده والأمجاد على كل قبائله والخصائص الفريدة على كل اعراقه وجهاته، بشكل افقي ممتد بطول المدى الجغرافي والديمغرافي.
يلالي يذا من وخيرت فموريتان ويذا من الفخر والأمجاد، وفي المقابل يذاك من الفقر وقلة الإنتاج والجهل والتخلف.
وخيرت مستحقة ببعرة البعير التي التي لم تصدع رؤوسنا بالحديث عن سنام باعرها ولا ادعت مجدا.
في المحصلة النهائية أنا كصديقي إسماعيل، لست من أهل التاريخ ولا اضن على الناس بمفاخرهم لكنني أدرك أن شِباك التاريخ لم تهتز بعد في هذه البقعة من بلاد الله، بالرغم من استوديوهات التحليل وكثرة المحللين والصحافة والساسة والضباط والمناضلين والعلماء والحفاظ وابطال المقاومة والائمة والاسياد والسيدات والزيجات السرية.
ديربي بلا أهداف، ونحن نمر على الدنيا جيلا بعد آخر " ومش باينين"