بعد ثلاث سنوات من العمل الدؤوب، أكمل فريق من أمهر المهندسين بناء سفينة التايتانيك وخرجت متبخترة من أحواض إيرلندا العميقة.
السفينة التي لا تغرق سفينة نوحٍ بُعثت من جديد وانطلقت تمخر عباب المحيط في رحلةٍ مشهورة.
قصة جسّدها باقتدار المخرج جيمس كامرون في فيلمه الموسوم باسم السفينة
شاهدت الفيلم وتأثرت بقصة الحب وصراع الطبقات الاجتماعية غير المتكافئة.
كان ركاب السفينة يمثلون عيّنة مصغرة من العالم كله بتناقضاته و غرائبيته فذاك الغني المغرور وتلك من بنات الذوات أتعبتها صروف الدهر تتشبث بالوسط المخملي ، بِضاعتها غير مزجاة وذاك صبي أوصله القمار للرحلة.
مشاهد الفيلم كثيرة وبذكاء واحترافية حاول المُخرج تركيز الانتباه على قصة الحب الوليدة في رحلةٍ حُبلى بالعبر.
قبطان واثق حدّ الغرور من سفينته ورُكاب يثقون في قبطانهم وهم لايدركون أن القيادة مسؤولية وأن جبال الجليد شامخة في كل مكان تترصد من لاينتبه لها ومصيره الغرق.
على القائد أن يكون يقِظا حذقًا يقرأ المؤشرات و يحللها و يستبق الأحداث يقرر بسرعة وفي الوقت المناسب.
في الفيلم كان القبطان شخصًا ودودا ، اجتماعيًا يفتتح حفلات العشاء كما وكان مؤدبا لبقا حريصا على راحة مسافريه من الطبقة المخملية لكنه في لحظةٍ نسي مسؤولياته.
أغفل قراءة خرائط بحر الظلمات وبعد فوات الأوان انتبه القبطان المؤدب و الوقور أن السفينة تتجه مباشرة إلى جبل جليد يُخفي الماء أكثر من ثلاثة أرباع حجمه الحقيقي ككل المشاكل والمحن تبدو في البداية صغيرة لكن سرعان ماتكبر وتصبح خطيرة وملحة ومدجرة أحيانا.
أدرك القُبطان أن الأمر حُسِم ونسي الركاب تفاوت طبقاتهم فالبحر "عادل" سيُغرق الجميع والموت هو الموت لا يميز بين غني وفقير.
توجه القبطان لعالم رياضيات شارد الذهن يبحث عن احتمال نجاة لكنّ الأرقام لا تُجامل … لُغتها جامدة …. كان جواب العالم أنّ غرق السفينة "يقين رياضي" لا شك فيه على الأقل بمنطق الأرقام.
في النهاية مات من مات ونجت قِلّة وفي مشهد يختزل عجز القائد ، جلس القبطان في قمرة قيادته متمسكا بدفة سفينة غارقة وواصل الفريق عزف إلياذة الموت علّ الموج الهادر يرحمه.
مازلتُ اتذكر الفيلم واتذكر شعوري الساذج بالفخر في بداية الفيلم عندما ذَكر المعلق أنّ سفينة تيتانيك كانت الأضخم وأنها أكبر من موريتانيا لفخري اهتز بي الكرسي واحسست بالزهو فقد كان يزعجني خُمول ذِكر بلدي واليوم أسمعُه في فيلم عالمي حصد عددا كبيرا من الجوائز أدركت بعد ذلك، أن المعني هنا عابرة محيطات صممها مهندس آخر بداية القرن العشرين وسماها موريتانيا تيمنا بقرية رومانية قديمة تقع على الساحل الشمالي الغربي لأفريقيا.
كانت لحظة فرح عند سماعي الاسم وشردَ بي ذهني في مقارنات سطحية لتروادني اللأسئلة أليست موريتانيا سفينةً بحق نحنُ ركابها وتمخر بنا بحرا من المخاطر؟
فهل يُدرك القائد مسؤوليته عن ركابٍ سلموه زمام أمرهم ؟ في بحر أمواج هائجة …. جبال مختبئة في ظلمات البحر هل يمتلك القبطان اليقظة اللازمة لينتبه للمخاطر الكامنة ... هل يقرأ القبطان تلك المؤشرات …. مؤشرات لاتخطئها العين لانفجار قادم .... لنارٍ ملّت الرماد ... إضراب الناقلين عام 2017 حيث كادت المظاهرات التي اتخذت طابعا عرقيا وطبقيا أن تشعل العاصمة في ظرف ساعات وأرغم القائد القوي و العنيد الماسك بالسلطة حينها على التراجع وسحب قانون النقل المقترح .... بعدها بسنتين تحولت مظاهرات خرجت رفضا لنتائج الانتخابات لمواجهة شهدت هي الأخرى إصطفافا لوني وعرقي وكاد الدم يسيل و امتلك الناس الخوف و هُجرت الأسواق واضطرت السلطة لقطع خدمات الانترنت من أجل قطع دابر ما اعتبرته حينها فتنة أطلت برأسها كالأفعى... إشارة أخرى، قبطاني الحصيف ،هي ثورات الجياع التي اجتاحت الخارطة الموريتانية من أقصاها إلى أقصاها وفي مناطق نفوذ تقليدية للنظام ورجالاته القبليين الذين يمسكون بزمام البلاد والعباد في تلك المدن والقرى البعيدة التي أصبحت بؤرة للسخط على النظام ورجاله وكل مايمت إليه بصلة... من كان يظن أن تمبدغه والطيطان وباسكنو والركيز وفديرك وكيهيدي يمكن أن تنتفض ضد السلطة الحاكمة.
إنه الفقر والظلم .. غياب الأمل ... ضبابية الأفق بإختصار موت الحلم .... فهل استخلص القائد الدروس والعبر من هذه الأحداث والإشارات للأسف لايبدو أنه كذلك.
سيدي القبطان للبحر قوانين وفي قوانينه يتحمل القبطان المسؤولية النهائية عن سفينته وكل من ركبها ، وفي حالات الطوارئ إما أن ينقذ من كانوا على متنها أو يموت وهو يحاول ... في البحر، قبطاننا العزيز ، عجبٌ وفي غيره عجبان.