في ضيـافة الشرطة..! / كريم الدين ولد محمد

كريم الدين ولد محمدفي الليلة الماضية وعند الساعة الحادية عشرة والنصف مساءا وقفت أمام محطة البازات في مقاطعة تيارت المعروفة ب "الوقفة" بعد أن سرت راجلا لمسافة ليست بالقصيرة أثناء رحلة البحث عن سيارة أجرة تقلني إلى حيث أقيم في الحي الجامعي بوسط عاصمة الظلام هذه التي يعاني سكانها من أزمة حادة في النقل نتيجة للفوضى العارمة التي يشهدها هذا القطاع كغيره من القطاعات الحيوية في البلاد...

فجأة وبدون سابق انذار صاح بي سائق القطيع وبلهجة حيوانية: اركب..!

  إلى أين؟

  إلى حيث ستعرف..!

وجدتني وبدون إرادة مني في مؤخرة سيارة لاند كروزر في ليلة شديدة البرودة ومع رفقة لا تذكر بالاحترام..!

لم يطل انتظاري فغير بعيد دارت السيارة عند مدخل مفوضية الشرطة بتيارت حيث تجمعات من القمامة هنا وهناك وعن جنبات الحائط بقايا شجيرات يابسة لا يختلف منظرها كثيرا عن ما بداخل المكان، بينما كانت رائحة البول تُزكم الداخلين مُحَدِثة إياهم عن طيب المُقام..!

في الداخل كان أعضاء الفرقة المداومة يجلسون القُرفصاء على حصير بالي وبالقرب من قائد الفرقة كرسي تكسرت إحدى رجليه وعن يمينه مخنث يقيم الشاي، بينما باقي المبنى ملؤه الأوساخ في غياب لأي من أشكال الأثاث المفروض أن تكون هناك لاستقبال اللصوص والمجرمين والمظلومين..!

بدأت السهرة بعملية تسجيل أعضاء الفوج التعيس الحظ هذا وحين جاء دوري تحدثت عن نفسي وعن مكان إقامتي متسائلا في نفس الوقت عن سبب وجودي في هذا المكان الذي من الواضح أن أحدا لم يقصده بداعي الضيافة؟

سجل الشرطي المسكين معلومات عني وذكر بأن هناك أوامر عليا تقضي بفرض حظر التجوال واقتياد كل من خرج من منزله ولو لغاية مشروعة إلى هذا المكان الذي لا يفرق أهله بين اللصوص وغيرهم...

لكن متى تم ذلك ولماذا لم نسمع بيانا يضع المواطنين في علم بهذا الحظر ويحدثهم عن توقيته؟

جاءت الإجابة بلغة الأمر من شرطي تظهر عليه علامات الإعياء ببذلته المتهالكة التي أخذ منها الزمن حتى أنك تحسبه أحد ضحايا زلزال اتسونامي من سكان الجزر الاندونوسية، فقال يخاطبني: هيه امش من هون وإلى أبقيت تم واقف إلى الصبح نحن وأنت مابين اكلام... ثم أتبع كلامه هذا بكثير من عبارات الشتم والسب.

كنت شاردا بذهني في التفكير في معاناة هذا الشرطي المسكين حين أخبرته بأني لست مجرما ولن أنافس اللصوص وجينكات على حصير في مكان مظلم ومليئ بالباعوض...

بعد ذلك دخلت في حوار مع قائد الفرقة مستفسرا عن عدم توفر آليات تسمح لهم بالتفريق بين المجرمين وغيرهم ليتم إخلاء عابري السبيل من المارة الطبيعيين واعتقال الباقين.. لكنه أخبرني أن الأمر من صلاحيات المفوض ولا يمكنه إطلاق سراح أيا كان وطلب مني تفهم ظروفهم وكان رده ينم عن أخلاق لدى هذا الرجل عكس ما يتميز به الكثيرين من شرطتنا وللأسف.

بين هذا وذاك كنت ألقي نظرة على من هم بداخل قاعة الاحتجاز حيث هناك شباب وقصر تكاد سراويلهم تسقط على الأرض من شدة إرخاء أحزمتهم وترى الواحد منهم يتمايل وكأنه يترنم طربا لظروف الإقامة التي يبدو أنهم ألفوها... غير أنه كان من بين الحضور شاب آخر قال بأنه خرج لأخذ أغراض لوالدته من البقالة المجاورة لمنزل أهله حين التقطته سيارة الشرطة...

لم تسلم سهرتنا من خارجين عن قانون الغاب هذا حيث خرج بعض الموقوفين قبل قدوم المفوض نتيجة لاتصالات من جهات عليا كما أسماها صاحب الشرطة وبالطبع شكلهم لا يطمئن لكنه قانون الشرطة والدولة عندنا "فالمتهم البسيط مدان حتى ولو لم تثبت إدانته... أما السارق القوي فهو بريء حتى إذا ثبتت إدانته فتلك طريقه للخروج من قفص الاتهام في الغالب"...

عند الساعة الواحدة والنصف بالضبط وبعد مفاوضات طويلة مع قائد الفرقة المداومة سمح لي باستخدام هاتفي الجوال حينها اتصلت بزميلي عبد الفتاح ولد حبيب من حركة 25 فبراير الذي يبدو أنه أخبر بعض رفاقه من نشطاء الحركة عن طريق الفيس بوك حيث اجتمعت مجموعة من زملائي فيما يشبه اعتصام أمام مبنى المفوضية في حدود الثانية فجرا وبعد مفاوضات مع المفوض الذي على ما يبدو تربطه معرفة شخصية بأحد الشباب تقرر إطلاق سراحي لأخرج من مبنى المفوضية حوالي الثالثة والنصف فجرا بعد معاناة طويلة وإرهاق شديد ومعاملة غير لائقة تخللها سب وشتم من طرف بعض رجال الأمن...

غير أني وبدافع حب الاطلاع لم أشأ المغادرة قبل دخول قاعة الاحتجاز التي أكتشفت بأنها سجل مفتوح سجل فيه كل من مر بالمفوضية ذات يوم رسالة مختصرة على شكل توقيع.. فهناك بخط واضح عبارة تقول: مر من هنا الأساتذة المحولون تعسفيا من طرف ولد باهية... وأخرى تقول: رحيل ولد باهية يساوي إصلاح التعليم... يسقط ولد باهية... إلخ.

تمنيت لو أن بحوزتي قلم لأترك بصمة في ذاك المكان الذي شكل محطة في طريق أناس مختلفين، لكني لم أتمكن من الحصول على وسيلة للكتابة ومع ضجة المكان وعراك أهله آثرت الخروج سالما والتحقت بزملائي خارج المفوضية...

واقع صعب وخليط من الأوساخ والفوضاء وسوء المعاملة ومعاناة واضحة حتى في ظروف الشرطة وطريقة معاشهم هذا ما خلفته في نفسي تجربة ساعات من الايقاف في إحدى مفوضيات الأمن الوطني فإلى متى يستشري التخلف والفساد في مختلف قطاعاتنا العمومية؟

[email protected]

1. مارس 2013 - 23:28

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا