لَسْنا بصدد معالجةٍ قانونيةٍ لِإشكاليةِ إزدواجية الجنسية ولكن نريد من خلال هذا المقال ،أنْ نبوحَ ببعض الأسباب التى دَفعت إلى إكتساب الهويّة الجديدة وكذلك نَنْفُضَ الغبار عن بعض الخواطر والإنطباعات والهواجس التى تُؤّرق المُتجنسين الجُدد ،إِذْ قد يستهوي البعض هذا النّوع من الطّرح ،خصوصًا أولئك الذين تَذَوَّقُوا مرارة الإغتراب عن الأوطان الأَصل ولم يَتَنَكَّبُوا(يَتَجَنّبُوا) دروب الهجرة والبحث عن العيش الكريم فى بلاد المهجر بعدما رَمت بهم صُرُوف الحياة ونكبات الدّهر إلى خارج الأوطان وتوفرت لَدَيهم كل أسباب الهروب ..بَدْءًا بِغياب الحريات العامّة وإنعدام العدالة الإجتماعية إلى التّهميش والغُبن والإنتكاس ..لِيَجِدوا أمامهم عَالَمًا فَسيحّا وشعوبًا أخرى تحكمها قوانين ودساتير ومؤسسات ...حَجَر الأساس فيها الإنسان!!!
لم نكن والحمد للّه من الذين شرّدتهم الحروب من أوطانهم ولكن كُنّا فى عِدَادِ المحرومين والمُهمّشين حيث أستأثرت نُخَبٌ وأنظمة حُكم عَاتِيَة على مُقَدرات البلاد وخيراتها وأزاحت عن طريقها أجيال الشّباب النّاهضة والحالمة بمستقبل زاهرٍ وغَدٍ أفضل ،وسَدّت كل النوافذ وأَوْصَدَت الأبواب..فَلَم يَعُد بُدٌّ أمامنا إلاّ اللّجوء إلى الآخر الذى تجمعنا به صِلَة آدمية وقواسم مشتركة وقُربى فى النّوع الإنساني البشري..!!!!
فهل الحصول على الهوية الجديدة والإنسجام معها يُعَّد تَنَكُرًا للهوية الأَصل؟ أَلا تُحَتّم أولويات العصر ومُقتضيات التّرحال والتّكسب ،هذا التّعدد الهَوِيَّاتي؟ هل اليمين المَقْسوم عليها وقت الحصول على الجنسية الجديدة ،أثناء تأدية القَسَم ،يمكن أن تُبَدّل الدّماء التى تجري فى عروقنا والمشاعر والعواطف الجيّاشة التى تختلج فى القلوب وتعتصر من لوعة الفراق وحرارة الجَوى؟ قد تَتَحَنَّنُ الجَدَّة أحيانًا أكثر من الأم المُرضع ،فهل أوربا كانت لنا جَدّة بعدما عِشْنَا نوازل الفِطَامِ عن الوطن الأُم؟
بلادي وإن هانت عَليَ عزيزة
ولو أنني أعرى فيها وأجوع
على درب هذا الشاعر فإنّي وأمثالي كثيرون ،ستبقى أوطان المنشأ والميلاد غالية علينا وتحوز المكانة اللائقة من المحبة والتّعلق وسنبقى مشدودين إلى تلك الرّبوع التى إِرْتَوَيْنا من زُلاَلِ منابع مائها وأَفْتَرَشْنا هِضَابَها وسُهولها وجُبْنَا مَنَاكِبَها وتَحَصَلْنا على المعارف من محاظرها ومدارسها وعلى المِنَح الدّراسية على حِساب مواردها.
قال معن بن أوس:
أُعَلِمُه الرّماية كلَّ يومٍ
فلما أشْتَدَّ ساعده رَماني
وكَمْ عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوَافِي
فَلَمَّا قال قَافِيةً هَجَانِي.
لا أبدًا أيّها الأوسي ،لن نرمي ولن نَهْجُوَ منبتَنا الأول ومَسقط الرُّؤوس...ولكن أَلَمْ يَحِن لهذا المَنْبت (الوطن) أن يَتَبَوأ مكانته وأن يخلق لأبنائه وفلذات أكباده ،مستوى لائقًا من العيش الكريم والحرية وإتاحة الفُرَص وتفعيل القانون وخلق المؤسسات ؟ ألم يحن له أن يُهيِئ ظروف الإستقطاب لِشبابه الذى يكتوي بِنيران الحِرْمان وتستدرجه بلاد أخرى تَسُودها دساتير وديمقراطيات عتيدة ذات مؤسسات تحمل على عاتقها البُعد الإنساني وترى الإنسان ،كَحَجَر أساس فى كل المقاربات التّنموية...؟
لقد كان الأمل المَعقود بين أَيْدِينا كبيرًا ولم تكن فكرة الهجرة فى أذهاننا ولكن ضاق الأَهْلُونَ علينا بما رَحِبُوا....فلم تَعُد أنفسنا تُحدّثنا بِعَقد الرّجاء فى التغيير والعيش الكريم بين ذَوِينَا وأبناء جلدتنا ..فكان لابُدّ من الإلتجاء إلى الآخر لِإشباع الحاجات وسَدِّ غَائِلة الفقر والتّنفس بنسمات الحرية والتّنعم بالآفاق الرّحبة من الحُظوظ المُتاحة للجميع!!!
اذا كنتَ أيّها الوطن الأم ،تمتلك كنوزا من الذهب والغاز والحديد وثروة حيوانية وسمكية وشمامة واعدة.....فإنّ البلد الثّاني يمتلك تِرسانة من القوانين والحرّيات الجماعية والفردية وبُنَى تحتية مُشّيدة وأخرى تُهَيَّأ للأجيال القادمة.....! إذا كانت ثقافة الوساطة والفساد والرشوة والإختلاس والزّبونية والجهوية،هي السَبيل الوحيد للحصول على الحقوق فيك ..فإنّ البلد الثّاني يعتمد مبدأ الشّخص المناسب فى المكان المناسب وثقافة الأَحَقِيّة والكفاءة ولاسبيل للولوج إلى الإدارات ،إلاّ بالطّابور والمواعيد بعيدا عن سلطان الجَاه والوَسَاطات...! فى بلدي الثّاني تَتبدل الطّبقة السّياسية مع كل جِيل وتَتوارى عن الأشهاد..وفى وطني الأول تعيش الزّعامات السّياسية كلّ الإستحقاقات وتبقى جاثية فى المشهد السّياسي رغم أُنوف العباد..!!! فى الثّاني يتكفل الضّمان الإجتماعي بالأحياء والأموات ويدفعون رَاتب تَقَاعُد الوفاة..وفى الأول هزيلة هي التّعويضات وتتعد المآسي بِتعدد الرّوايات ..! فى الثّاني رِقابة صارمة والمنتوج كامل الصّلاحية ..وفى بلدي الأول فوضى عارمة فى الأسعار ولا إشكال فى تسويق مواد وأدوية مغشوشة أو منتهية الصّلاحية ...! فى وطني الأول يُباشر الطّبيب الأخصائي ،فى الشّهر أَلف إستشارة ..وفى الثّاني بالكاد تكون فى رُبع النّهار مَرة...!
لا نريد أن نستزيد فى سَبْرِ هذه الملاحظات وتبيين الفوارق وسَنَسْعى غَيُورِين الى تحقيق نهضة شاملة فى وطن المنشأ حتى نلتحق بالرّكب المتقدم وتتزاوج القوانين وتتفاعل فى مجال الضّمان الإجتماعي وحقوق الملكية وجلب الإستثمار وتحفيز السّياحة البينية وتسهيل أوراق الحالة المدنية والعُقود ..لِيكون الإندماج سَلِسًا....سنكون جسرًا للتّواصل بين شنقيط والأندلس حتى نؤكد للعالم أنّ الإنسانية مجتمع واحد ولا تناقض للولاء فى إطار القانون والمعاهدات ،على عكس مايزعم بعض فقهاء القانون الذين يستشكلون تعدد الجنسية ويَتَبَنّوْن بالمطلق ماجاء فى إتّفاقية لاهاي سنة 1930م والمتعلقة ببعض تنازع القوانين فى شأن الجنسية!!!! إنّ المثل الأعلى الذى يجب أن تحتذي به البشرية ،هو تسهيل الإندماج والتّواصل وكسر رُوتِين الحدود وإعتبار حَقّ الدّم كحقّ الإقليم حيث أنّنا نعيش على كوكب واحد ونشكّل قرية كونية تجمعنا المصالح ولا معنى للجغرافيا والحدود...إِنّنا بِتَبَنِّي هذا الإعتقاد ،نقلل من بُؤر النّزاعات ونطفِئ جذوة الحروب ونخلق فضاءات للتّواصل ولا نعيد الى الأذهان صراع الهَوِيّات وتناقض المصالح حيث أنّ مبدأ الأنا ،يكاد ينسجم مع الآخر ،على الأقل فى تجليّاته الإنسانية والثقافية والفكرية وحتى الإقتصادية بإعتبار أنّ الحياة على الكوكب تجمعنا ...
ويبقى عزاؤنا الوحيد ،هو أنّ هذا الواقع المُتَردي الذي يعيشه وطن المنشأ ،كان حصيلة لِتراكمات تاريخية وتأثير أيادي الإستعمار والنُّخب المُستلبة ولم يأتِ من فراغ ،بل كان نِتَاجًا لذلك كُلّه...كما أنّ هذه الإنطباعت المُشرقة ليست تَبْيِيضًا لوجه الآخر بِقدرما أنّها بَوْحٌ بحقائق الواقع الحالي.
وفى الختام سنبقى مُمتنين للحكومة والشعب الإسباني حيث أستقبلونا فى أَحْلَكِ الظّروف ومَنَحُونَا تراخيص الإقامة والعمل والجنسية لاحقا،كما نُثَمِن عاليا الخطوات المُوَفَقَة والواعية للحكومة الموريتانية بإعادة النّظر فى قانون الجنسية وإعتبارها فى دائرة الإحتفاظ لكل موريتاني حاز أو حصل على جنسية أخرى كما هو المعمول به فى بعض دُوّل الجِوار ،وهذا من الإنجازات التى تُحسب للرّئيس الحالي(غزواني) وحكومته.
إنَّ الوفاء على الكريم فريضة
واللّؤمُ مقرون بِذى الإخْلافِ
وترى الكريم لمن يعاشر مُنصفًا
وترى اللّئيم مجانبَ الإنصافِ.